تحديثات الأخبار

في السنوات الأخيرة، تحوّل موضوع البطالة بين الخريجين إلى واحدة من أبرز القضايا التي تشغل الرأي العام على منصات التواصل الاجتماعي، وأصبح حديث الشباب والمجتمع على حد سواء. فكل عام، يتخرج آلاف الطلبة من الجامعات والكليات في فلسطين والعالم العربي، حاملين شهاداتهم التي تعبوا من أجلها سنوات طويلة، على أمل أن تكون مفتاحًا لحياة عملية مستقرة. لكن ما إن ينتهوا من فرحة التخرج حتى يصطدموا بواقع صعب ومعقد، حيث تندر فرص العمل، وتزدحم بعض التخصصات بأعداد كبيرة من الخريجين، في مقابل غياب واضح للتخطيط وربط التعليم بسوق العمل.

جذور المشكلة

البطالة بين الخريجين ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات ممتدة منذ سنوات، ولها أسباب متعددة، يمكن تلخيصها في الآتي:

1. غياب التوازن بين التعليم والسوق

الجامعات الفلسطينية والعربية بشكل عام تركز بشكل كبير على تخريج أعداد هائلة من الطلبة في تخصصات تقليدية مشبعة مثل التعليم، المحاسبة، والحقوق. بينما السوق المحلي لا يحتاج لهذه الأعداد الضخمة. في المقابل، هناك مجالات مطلوبة مثل التخصصات التقنية، التكنولوجيا الحديثة، والطاقة المتجددة، لكن الإقبال عليها ضعيف، إما بسبب ضعف التوجيه الجامعي أو محدودية البرامج المتاحة.

2. ضعف التدريب العملي

معظم الجامعات تركز على الجانب النظري في التدريس، فيما يحصل الطالب على تدريب عملي محدود أو شكلي. وعندما يدخل سوق العمل يجد نفسه غير جاهز أو بلا خبرة عملية، بينما أصحاب الشركات يبحثون دائمًا عن موظفين "جاهزين" يمتلكون مهارات وخبرة سابقة.

3. الأوضاع الاقتصادية والسياسية

في فلسطين على وجه الخصوص، يشكل الاحتلال عقبة أساسية أمام نمو الاقتصاد وخلق فرص عمل. فالقيود على الاستيراد والتصدير، والحصار على قطاع غزة، والتحكم بالموارد، كلها عوامل تضعف القطاع الخاص وتمنع الاستثمار. وهذا ينعكس بشكل مباشر على قدرة السوق على استيعاب الخريجين الجدد.

4. تضخم أعداد الجامعات والخريجين

في العقدين الأخيرين، زاد عدد الجامعات والكليات في فلسطين بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الخريجين سنويًا، دون أن يكون هناك خطة واضحة لربط هذه الأعداد بحاجات السوق.

5. انتظار الوظائف الحكومية

ما زالت شريحة واسعة من الشباب ترى أن الوظيفة الحكومية هي الأكثر أمانًا واستقرارًا، لكن قدرة القطاع الحكومي محدودة جدًا ولا يمكنه استيعاب آلاف الخريجين سنويًا.

تداعيات اجتماعية ونفسية

البطالة لا تنعكس فقط على الجانب الاقتصادي، بل تترك آثارًا عميقة على المجتمع والفرد ويظهر ذلك من خلال:

 - الإحباط واليأس: كثير من الخريجين يشعرون أن تعبهم وجهدهم خلال سنوات الدراسة ذهب سدى، مما يولّد حالة من الإحباط وغياب الأمل بالمستقبل.

 - مشاكل نفسية: بعض الدراسات تشير إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق بين فئة الشباب العاطلين عن العمل، خاصة مع شعورهم بعدم التقدير أو غياب الأفق.

 - تأخر الزواج: عدم وجود مصدر دخل ثابت يجعل الكثير من الشباب غير قادرين على الإقدام على خطوة الزواج، ما يؤدي إلى تأخر سن الزواج وزيادة المشكلات الاجتماعية المرتبطة بذلك.

 - الاعتماد على الأسرة: بدلًا من أن يصبح الخريج عونًا لعائلته، يبقى معتمدًا عليها ماليًا، ما يشكل عبئًا مضاعفًا على الأسر الفلسطينية التي تعاني أصلًا من ظروف اقتصادية صعبة.

 - فقدان الثقة بمؤسسات التعليم: البطالة العالية بين الخريجين تجعل الكثير من الشباب يتساءلون عن جدوى التعليم الجامعي، بل ويُحبط الجيل الأصغر من الالتحاق بالدراسة الجامعية.

السوشيال ميديا مساحة للتعبير والبحث عن أمل

لم تعد معاناة الخريجين  حبيسة البيوت أو الجلسات الخاصة، بل أصبحت تُعرض يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، ونرى خريجين يكتبون قصصهم عبر هاشتاغات مثل #بطالة_الخريجين، يصفون سنوات الدراسة الطويلة وما يواجهونه بعد التخرج من إحباط ومعاناة.

لكن في الوقت نفسه، السوشيال ميديا كانت أيضًا منصة لبعض قصص النجاح، وهناك خريجون استطاعوا تأسيس مشاريعهم الصغيرة، أو وجدوا فرص عمل عن بُعد من خلال الإنترنت في مجالات مثل البرمجة، التصميم، الترجمة، وكتابة المحتوى. وهؤلاء الشباب يشاركون تجاربهم ليلهموا غيرهم، ويثبتوا أن الأمل ما زال موجودًا رغم التحديات. 

حلول مقترحة

تتطلب حل مشكلة البطالة بين الخريجين رؤية متكاملة وجهدًا جماعيًا، يشترك فيه الجميع كالحكومة، والجامعات، والقطاع الخاص، وحتى الطلبة أنفسهم، ومن أبرز الحلول الممكنة:

1. تطوير التعليم وربطه بالسوق

يجب أن تعيد الجامعات النظر في تخصصاتها، وتعمل على تحديث مناهجها بما يتناسب مع التطورات الحديثة واحتياجات سوق العمل، مثل التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الطاقة، وإدارة المشاريع.

2. زيادة التدريب العملي

ينبغي أن يحصل الطلاب على تدريب عملي حقيقي خلال دراستهم، بحيث يتخرج الطالب وهو يمتلك خبرة عملية تجعل دخوله سوق العمل أسهل.

3. تشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة

من المهم أن يتم دعم الشباب لإنشاء مشاريعهم الخاصة من خلال قروض صغيرة أو برامج تمويل، إضافة إلى توفير حاضنات أعمال ترشدهم وتتابعهم 

4. العمل الحر عبر الإنترنت

يمكن للشباب استغلال الفرص المتاحة عالميًا في مجال العمل الحر، خاصة وأن هذا المجال لا يتطلب وجودًا ماديًا أو تنقلًا، وهو مناسب جدًا لظروف فلسطين.

5. التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص

إقامة شراكات حقيقية بين الجامعات والشركات، بحيث يتم تدريب الطلبة داخل هذه الشركات، وربما توظيفهم بعد التخرج.

6. برامج تشغيل مؤقتة

يمكن للحكومة، حتى بمواردها المحدودة، أن تنفذ برامج تشغيل مؤقتة تعطي الشباب خبرة عملية، وتفتح لهم أبوابًا لاحقة للتوظيف.  

قصص نجاح رغم التحديات

رغم كل الصعوبات، هناك أمثلة مُشرقة تثبت أن الإصرار يمكن أن يصنع الفارق. بعض الخريجين الفلسطينيين استطاعوا تأسيس متاجر إلكترونية صغيرة، وبدأوا ببيع منتجات محلية عبر الإنترنت ووصلوا إلى أسواق خارجية. آخرون نجحوا في العمل ككتّاب أو مترجمين أو مصممين لحساب شركات في الخليج وأوروبا، هذه النماذج مهمة لأنها تعطي الأمل، وتؤكد أن الحلول ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى دعم وتوجيه.

يتضح أن البطالة بين الخريجين في فلسطين ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي قضية تمس مستقبل جيل كامل، فكل خريج بلا عمل هو طاقة معطلة كان يمكن أن تكون محركًا للتنمية والتغيير.  ولذلك فإن إيجاد حلول لهذه المشكلة لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة وطنية ومجتمعية، فبالعلم، والإصرار، والتعاون بين مختلف القطاعات، يمكن تحويل هذا التحدي الكبير إلى فرصة لصناعة جيل قادر على قيادة المستقبل بدلًا من أن يبقى عالقًا في صفوف البطالة.