في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدل فيه الأولويات، أصبح التأثير في الناس أحد أهم عناصر القوة الناعمة في المجتمعات. فالأفكار لم تعد حبيسة الكتب أو المنابر التقليدية، بل تحولت إلى رسائل وصور ومقاطع قصيرة تجوب العالم بضغطة زر. وبينما كان الداعية لعقود طويلة هو المرجع الأساسي للناس في قضايا الدين والقيم، ظهر جيل جديد من "المؤثرين" الذين بنوا شهرتهم عبر المنصات الرقمية، واستطاعوا أن يلامسوا حياة الناس اليومية بأسلوب مباشر وسريع.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ما زال الداعية يحتفظ بمكانته كأهم مصدر للتأثير في النفوس والعقول، أم أن المؤثر بات الأكثر حضوراً وقرباً من الناس؟
ولفهم طبيعة هذا الجدل حول التأثير، لا بد أولاً من التوقف عند تعريف كل من الداعية والمؤثر. فالداعية هو من يكرّس وقته وجهده لنشر القيم الدينية والأخلاقية، موجهاً الناس نحو الهداية والإصلاح، بينما المؤثر هو شخصية برزت في فضاء الإعلام الرقمي، وجذبت اهتمام الجمهور عبر محتوى متنوع يمسّ حياتهم اليومية، سواء في مجالات الترفيه أو التعليم أو الاستهلاك. هذا التباين في المنطلقات والوسائل يجعل المقارنة بين الطرفين مثيرة للاهتمام، إذ يكشف لنا كيف يلتقيان أحياناً في ساحة التأثير، وكيف يفترقان في الغاية والنتيجة.
أدوات التأثير
أولاً: أدوات الداعية، تعتمد الداعية في تأثيرها على مجموعة من الوسائل التي تمنحه قوة الحضور، أبرزها:
- الخطاب الديني المستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو ما يكسبه شرعية خاصة وثقة لدى المستمعين، فالمتلقي يرى أن كلامه متصل بمصادر عليا لا تقبل الشك.
- الرصيد الروحي والأخلاقي الذي يجعله محل تقدير ومرجعية للباحثين عن الهداية، فصورة الداعية عادةً ما تقترن بالنزاهة والالتزام.
- المناسبات الدينية مثل رمضان والجمعة والأعياد، حيث تتضاعف فرصه للوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تفاعلاً، إذ يكون الناس أكثر استعداداً لتلقي الرسائل الروحية.
- الإعلام التقليدي والحديث، إذ لم يعد الداعية يقتصر على المنبر أو الكتاب، بل بات يستثمر القنوات الفضائية، البودكاست، ومنصات التواصل للوصول إلى شرائح مختلفة، خاصة الشباب الباحث عن محتوى قصير وسريع.
ثانياً: أدوات المؤثر، فتعتمد قوته على أدوات مغايرة تتناسب مع طبيعة الإعلام الرقمي، منها:
- المنصات الاجتماعية التي تتيح له الانتشار الفوري والقدرة على مخاطبة ملايين المتابعين دون قيود جغرافية.
- الأسلوب الترفيهي والبسيط القائم على مقاطع قصيرة وجذابة تثير الفضول وتحقق سرعة الانتشار، إذ يراهن على سرعة المشاهدة أكثر من عمقها.
- التعاون مع العلامات التجارية، وهو ما يمنحه دعماً مالياً يعزز حضوره ويضاعف محتواه، ويجعله حاضراً باستمرار في حياة الناس.
- التفاعل المباشر مع الجمهور عبر التعليقات والبث المباشر، مما يخلق شعوراً بالألفة والقرب بينه وبين متابعيه، وكأنه صديق يومي لهم.
مدى التأثير
1. تأثير الداعية طويل المدى؛ لأن الداعية تغرس قيماً ومعتقدات تشكل هوية الفرد وتظل راسخة في وعيه. وكذلك التأثير العميق، إذ يتعلق بالروح والعقل والوجدان، ويؤثر على جوهر حياة الإنسان.، والتأثير التوجيهي الذي يدفع الإنسان نحو الالتزام بسلوكيات معينة كالصلاة، الصدق، العطاء، واحترام الآخرين، كما أن تأثير الدعاية محدود بالاهتمام، فليس كل الناس يبحثون عن الوعظ بشكل دائم، وقد يتراجع تأثيره في أوقات الانشغال الدنيوي.
2. تأثير المؤثر، فهو سريع وواسع، يمكن لمقطع فيديو قصير أن يصل لملايين خلال ساعات قليلة، وهو سطحي نسبياً، ويرتبط غالباً بالموضة واللحظة الراهنة أكثر من المبادئ الثابتة، وتأثيره اقتصادي وسلوكي، يؤثر بشكل ملحوظ في عادات الشراء وأسلوب الحياة، بالإضافة أنه زائل، إذ يتراجع بمرور الوقت مع تغير الاهتمامات والمنصات وظهور مؤثرين جدد.
أثر كل طرف على المجتمع
1. أثر الداعية
- تعزيز القيم الأخلاقية مثل الأمانة، التعاون، الصدق، وهو ما يشكل حصناً نفسياً وأخلاقياً للأفراد.
- بناء هوية جماعية تربط الناس بجذورهم الدينية والثقافية، وتخلق شعوراً بالانتماء.
- الحد من الانحرافات من خلال تقديم بدائل روحية وسلوكية تعيد الأفراد إلى الطريق الصحيح.
2. أثر المؤثر
- تغيير أنماط الاستهلاك عبر الإعلانات والترويج المستمر للمنتجات.
- تشكيل الذوق العام في الموضة، الموسيقى، الترفيه، وحتى في اللهجة وطريقة الكلام.
- إثارة قضايا اجتماعية: أحياناً بشكل إيجابي، مثل نشر الوعي حول الصحة النفسية أو البيئة أو حقوق الإنسان.
التكامل بدلاً من التنافس
من الخطأ النظر إلى الداعية والمؤثر كخصمين متنافرين، بل يمكن تصور علاقة تكاملية بينهما. فالداعية يستطيع الاستفادة من أدوات المؤثرين وأساليبهم العصرية ليصل إلى الشباب بشكل أعمق وأكثر تأثيراً. وفي المقابل، يمكن للمؤثر أن يدمج رسائل قيمية أو مجتمعية في محتواه، ليجمع بين الترفيه والفائدة، فلا يكون مجرد ناقل للموضة أو الإعلان.
إن التعاون بين الطرفين قد يخلق نموذجاً جديداً للتأثير، يجمع بين الرسالة العميقة والوسيلة السريعة، وبين الأصالة والحداثة. بهذه الطريقة، يتحول الفضاء الرقمي من مجرد مساحة استهلاك إلى ساحة لبناء القيم والتأثير الإيجابي.
يتضح لنا من مما سبق أن المقارنة بين الداعية والمؤثر ليست مجرد مفاضلة بين شخصيتين، بل هي انعكاس لصراع بين عمق القيم وسطحية اللحظة، بين الاستمرارية والزوال. فالداعية يحمل رسالة تستهدف بناء الإنسان على أسس راسخة، بينما المؤثر يجذب الانتباه بأسلوب سريع ومباشر لكنه قد يفتقر أحياناً إلى الجوهر.
ومع ذلك، فإن واقعنا المعاصر يحتاج إلى الاثنين معاً، شرط أن يتعلم كل طرف من الآخر: فالداعية يتبنى الوسائل الحديثة ليحافظ على حضوره بين الشباب، والمؤثر يدمج القيم في محتواه ليمنح شهرته معنى أعمق. عندها فقط يصبح التأثير أكثر توازناً، ويخدم المجتمع في جوانبه الروحية والمادية على حد سواء.
إن المستقبل لن يكون للداعية وحده ولا للمؤثر بمفرده، بل لذلك التكامل الذكي الذي يجمع بين الرسالة والمحتوى، بين الأخلاق والوسيلة، وبين عمق الماضي وسرعة الحاضر. وحين يدرك الطرفان هذه الحقيقة، يصبح التأثير أكثر نضجاً، وأكثر قدرة على بناء إنسان متوازن، ومجتمع يسير بخطى ثابتة نحو المستقبل.