الوحدة المشروطة والتعدد المقيّد: قراءة في المشهد الانتخابي الحالي
في كل موسم انتخابي، يطفو على السطح النقاش حول طبيعة التمثيل السياسي للعرب في إسرائيل: هل يجب أن تكون هناك قائمة واحدة أم عدة قوائم؟ هل الوحدة أفضل أم التعددية؟ وغالبًا ما يُقدَّم هذا النقاش بطريقة أخلاقية مبسطة، تصنّف الفاعلين السياسيين إلى مؤيدين للوحدة من جهة، ومنتقدين للانقسام من جهة أخرى. إلا أن هذه الرؤية الثنائية، رغم انتشارها، تتجاهل السؤال الأكثر أهمية: هل كل اتفاق يعني بالضرورة وحدة؟ وهل كل اختلاف يؤدي حتمًا إلى الانقسام؟
في المرحلة الحالية، يظهر تقاطع واضح في المصالح بين الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة الإسلامية الجنوبية (الموحدة)، رغم وجود فروقات سياسية بينهما. هذا التقاطع لا ينبع من رؤية سياسية مشتركة، بل من إدارة عملية لسقف الخيارات المطروحة أمام الجمهور، خصوصًا فيما يتعلق بعدد القوائم وحدود ما يُعتبر "مسموحًا" انتخابيًا.
ويُقدَّم الدفع المتزامن نحو خيار "القائمتين" في حال فشل مساعي الوحدة بوصفه حلًا عمليًا يضمن التمثيل ويمنع تشتّت الأصوات.
لكن المشكلة لا تكمن في الخيار ذاته، بل في الطريقة التي يُقدّم بها: ليس كأحد الخيارات الممكنة، بل كسقف نهائي يجب على الجميع القبول به. أي محاولة لمناقشة بدائل أخرى، بما في ذلك خيار وجود ثلاث قوائم، تُواجَه على الفور بالرفض، وأحيانًا بالتخويف أو اتهام الطرف المفكر بالخيانة، وكأن التفكير خارج هذا الإطار يهدد المصلحة العامة.
اللافت أن هذا التحفظ والتقارب هو نتيجة مباشرة لكسر الثنائية التقليدية في إدارة المشهد السياسي العربي. هذه الثنائية، التي تقسم الشارع إلى معسكرين رئيسيين، تضمن لكل طرف قاعدة واضحة ومجال تحرك محدد، لكنها في الوقت نفسه تحاول إضعاف أي مشروع سياسي مستقل يسعى لإعادة تعريف العمل البرلماني خارج منطق الاستقطاب، ويقدّم نهجًا مختلفًا لمفهوم التأثير السياسي.
وفي هذا السياق، تُستخدم حملة "حرق الأصوات" ضد التجمع، الذي فاجأ الجميع في الانتخابات الأخيرة وحصل على 28% من الأصوات، ليس فقط كتحذير، بل كأداة للضبط السياسي وردع تيار كامل. وبهذه الطريقة، تتحوّل النقاشات الديمقراطية إلى وسيلة ضغط، تُحمّل طرفًا بعينه مسؤولية أي إخفاق محتمل، ما يفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها التعددي ويعيد تعريفها على أنها خيار بين بديلين فقط.
أما الجبهة الديمقراطية، فتبدو أولوية الحفاظ على موقع القيادة داخل أي إطار مشترك أمرًا محوريًا. فالتعدد الحقيقي داخل القائمة الواحدة قد يفتح المجال لتوازنات جديدة تحد من السيطرة على القرار السياسي وآليات التفاوض. لذلك، يُفضّل ضبط الشراكة أو تقليص هامشها، حتى لو تم ذلك تحت شعارات توافقية عامة.
أما "الموحدة"، فتتعاطى مع فكرة الوحدة من زاوية مختلفة، لكنها بنفس القدر إشكالية. فهي تقبل الوحدة فقط عندما تُبنى في مواجهتها وليس معها، وتعرّف نفسها كبديل سياسي لها. الوحدة بالنسبة لها ليست هدفًا بحد ذاته، بل أداة لتعبئة سياسيّة واضحة، لا مساحة لتعدد البرامج والرؤى.
وبالتالي، فإن هذا التقاطع في المصالح، وإن لم يُعلن صراحة، يتجلّى في مواقف منصور عباس، زعيم الموحدة، وأمجد شبيطة، سكرتير الجبهة، تجاه رئيس التجمع سامي أبو شحادة، ما يضيّق آفاق النقاش العام ويحوّل مسألة التمثيل إلى قضية تقنية محايدة عن مضمون المشروع السياسي ذاته.
ينحسر النقاش حول الأهداف والبرامج وآليات العمل البرلماني، ويُحل محله الانشغال المفرط بالشكل القائم للقوائم وعددها، وكأن المشكلة تكمن في الهندسة الانتخابية لا في جوهر السياسة.
ما نشهده اليوم هو مرحلة "ما قبل الانقسام"، حيث يُدار الخلاف بدل تفكيكه، ويُقيد التعدد بدل تنظيمه. والخطر الحقيقي لا يكمن في تعدد القوائم، بل في تحويل هذا التعدد إلى "تابو" سياسي، وإعادة إنتاج الهيمنة من خلال ثنائيات مفروضة تُقدّم على أنها الشكل الوحيد لـ"المسؤولية الوطنية-الانتخابية".
وهذه الثنائيات تُحوّل المعركة الانتخابية إلى صراع مبسّط: علمانيون مقابل متدينين، متطرفون مقابل معتدلين، شمال مقابل جنوب، "أبيض وأسود"، بهدف إعادة إنتاج الهيمنة الحزبية التي تعرضت لتحديات وكشفت عن تيارات جديدة كانت مهمشة. وفي الوقت الذي تتطلبه المرحلة من وحدة حقيقية، يتم استنزاف الطاقة في إعادة تدوير الانقسامات القديمة