يقف الأدب في عهد الانتداب البريطاني عند عتبة التاريخ العربي الحديث، متّشحًا بوعيٍ حادّ يختزل الصراع بين الكلمة والمصير، في تلك المرحلة توحدت التجربة الإنسانية والسياسية في نسيج واحد، فغدت الكلمة فعلَ انتماءٍ وصرخةَ حضورٍ في وجه محاولات الطمس والاقتلاع. اتّخذ الأدب موقع الشاهد على الذاكرة، والحارس على جوهر الهوية، يكتب بمداد الأرض ما أرادت القوى الاستعمارية محوه من الوعي والتاريخ.
الهزات الكبرى وتشكيل الوعي الفلسطيني
مرت فلسطين بموجات من الهزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة، التي اقتلعت أركان حياتها، وأيقظت في نفوس أبنائها شعورًا بالانتماء والوعي الوطني. فقد بزغ المشروع الصهيوني بقيادة ثيودور هرتزل حاملاً في طياته حلمًا بالوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، في زمن كانت فيه المنطقة تعيش تحولات عنيفة بفعل صراعات القوى الكبرى. تلاه اندلاع الحرب العالمية الأولى التي قلبت موازين القوى، وفتحت آفاقًا جديدة للهيمنة الاستعمارية، فأصبحت فلسطين مسرحًا لتشابك المصالح الدولية.
وفي خضم هذه المتغيرات، صدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917، فاتحًا الباب أمام السيطرة البريطانية، وداعمًا للمشروع الصهيوني، قبل أن يعلن رسميًا الانتداب البريطاني على البلاد سنة 1922م، محققًا مرحلة فاصلة في تاريخها الحديث، ومؤكدًا هشاشة سيادتها.
تركت هذه الأحداث أثرًا بالغًا على نسيج المجتمع الفلسطيني، هزّت أعمدته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأطلقت شرارة الانتماء الوطني في القلوب، ليكون الرد الطبيعي على هذه الملمات من خلال الشعر الفلسطيني الحديث؛ شعر نبت من رحم المعاناة، وسرد الصمود والمقاومة، معبرًا عن رفض الاستعمار، ومواجهة المشروع الصهيوني، ليصبح بذلك مرآة للهوية الفلسطينية ووجدانها العميق.
الأدب في ظل الانتداب البريطاني
منذ فُرِضَ الانتداب على فلسطينَ عام 1922، وجد الأدباء أنفسهم أمام واقعٍ مغايرٍ لمألوف الحياة العربية، واقعٍ يُعيد تشكيل الخريطة السياسية والإنسانية على أرض مقدسة تتعرض لعملية اقتلاع منظمة. انبثق الأدب في تلك المرحلة من رحم المعاناة اليومية، وراح يعبّر عن وعي جمعي يتشكل على قاعدة المقاومة الفكرية والثقافية.
اتّخذ الشعر موقع الريادة، فكان المنبر الأول الذي التف حوله الناس، لأنه حمل صوت الأرض، والمدينة، والإنسان، ومن أبرز شعراء تلك المرحلة ( وديع البستاني، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي، وإبراهيم طوقان). أما النثر فكان مساحة للتأمل والتحليل، سُجّل في المقالة والخطابة والقصّة الملامح الأولى لنهضة أدبية تتجاوز المحلية إلى أفق قومي أرحب.
ظهرت موضوعات الحرية، والكرامة، والدفاع عن القدس، كقضايا مركزية في النصوص، وبرزت أسماء جعلت من الحرف فعلاً نضالياً، وأدركت أن معركة الوعي لا تقل شراسة عن معركة السلاح، وكان الأدب في عصر الانتداب إعادة إنتاج للهوية في وجه محاولات تذويبها، وتثبيتاً للذاكرة الفلسطينية في زمن كانت تُكتب فيه خرائط الأرض بأقلام الآخرين.
تأسّس الأدب الفلسطيني في زمن الانتداب البريطاني على جوهر الفعل المقاوم، فانبثق من بين شقوق التاريخ صوتٌ يذود عن الذاكرة ويصوغ ملامح الكينونة في وجه العتمة الاستعمارية. كان الحرفُ فضاءً يتشكّل فيه الوعي، وميدانًا تتجلّى فيه إرادة الأمة وهي تواجه محاولات الطمس وإعادة رسم المكان بمدادٍ غريب.
وفي هذا الأفق الملبّد بالتحوّلات، تسيّد الشعرُ مقام الريادة، يحرس الهوية ويستعيد نبض المدينة الفلسطينية التي ترفض الانكسار. ارتفعت أصوات الشعراء من القدس ويافا وحيفا، تحمل نداء الأرض وتعيد للسماء معناها الأول، فيما كانت المقالة والخطابة والنثر الأدبي ميادين للفكر المقاوم، تُستنهض فيها الروح وتُشحذ الذاكرة عبر منابر الصحف الفلسطينية كالكرمل، لتؤسس لخطابٍ ثقافيٍّ يرى في اللغة حصنًا للهوية وسياجًا للوعي.
تجلّت في تلك النصوص قيم الحرية والكرامة والانتماء والمكان المقدّس، فانبثق منها أدبٌ وطنيٌّ يرى في الأرض ذاكرةً تتكلم، وكرامةً تنبض، ووجودًا يتجاوز الجغرافيا إلى عمق الروح. وقد وصف الباحثون تلك المرحلة بقوله: كان الأدب الفلسطيني سلاح الوعي، يوازي البندقية في أثره، لأنه أدرك أن فقدان اللغة هو البدء في فقدان الوطن.
الشِّعر الفلسطينيّ في مواجهة الصهيونيّة
نهض الشِّعر الفلسطينيّ من رمادِ الجرح ووهج الوعي، قوةً تنطق بلسان الأرض، وتواجه الغزو بالبيان المشتعل، فكان لسان المقاومة قبل أن تتخذ المقاومة سلاحها. فمنذ مطلع القرن العشرين، كان الشعراء شهودًا على تحوّلاتٍ داهمةٍ تنسجها الحركة الصهيونيّة بخيوط الانتداب البريطانيّ، تستبيح بها الأرض وتشتري الذاكرة، تُغري بالمال، وتغرس غرباءها في تراب فلسطين كما تُغرس الأشواك في الجسد الحيّ. هناك انطلقت الكلمة الفلسطينية، كوعيٍ متوهّجٍ يدرك حجم الكارثة القادمة، ويصوغها بلغة تشهد وتشهد عليها.
ومن جنين، صدح برهان الدين العبوشي يرى الخطر ماثلًا في المستعمرات الناهضة، يقرأ النهاية قبل أن تُكتب، ويقارن في بصيرته بين ما حلّ بالأندلس وما يُدبَّر لفلسطين. كانت قصيدته نبوءةً تنبض بالحقيقة، ترسم خريطة الخسران قبل أن يُعلنها التاريخ. ووقف إبراهيم طوقان على تخوم الهاوية، يصرخ في وجه الغفلة، داعيًا أمته إلى يقظةٍ تليق بمهد الرسالات، بينما كان وديع البستانيّ يرفع صوته من قلب القدس، يفضح زيف الجامعة العبرية، ويواجه المكر باسم العلم والسياسة، معلنًا أن ما بُني بالحجر إنما هو حصنٌ للاستعمار.
وتتابعت الأصوات، من إسكندر الخوري البيتجالي إلى سليمان التاجي الفاروقي، وكلٌّ منهم يرى في الكلمة عهدًا لا يُنكث، وفي القصيدة وعدًا لا يُخلف، يذكّر الحكّام بما أضاعوه، ويستصرخ الضمير العربيّ أن يستعيد صوته قبل أن يُبتلع كل شيء. حتى إذا جاء عبد الرحيم محمود، جعل من الشعر سيفًا ومن الكلمة طلقةً، فوقف أمام الأمير سعود بن عبد العزيز، والقدس وراءه تنزف، ليهتف: هذا الأقصى يناديك، فهل من سامعٍ يفي بالوعد؟ ثم مضى بعد القول إلى الفعل، يقاتل في الشجرة، ويسقط شهيدًا، لتغدو دماؤه ختمًا على القصيدة، وتصبح سيرته برهانًا على أن الشعر لا يموت إذا نطق بالحقّ.
ذلك هو الشِّعر الفلسطينيّ في زمن الصهيونيّة: نارٌ من المعنى في ليل القهر، وسفرُ روحٍ تكتب وجودها في وجه العدم. كان الشاعر فيه نبيّ المكان، وضمير التاريخ، وصرخةً لا تُسكتها البنادق؛ لأن القصيدة حين تتجذّر في التراب، تصير وطنًا آخر، لا يُغتصب ولا يُباع.
صدى النكبة – ولادة الوعي الجريح في أدب البيت المقدس
في الرابع عشر من أيّار عام 1948، انزاح وجه الإمبراطوريّة البريطانية عن فلسطين، كما يخلع الجلاد قفّازه بعد تمام الجريمة. ترك الإنجليز خلفهم وطنًا مفككًا، تتناوبه الحرائق، وتتناهبه العصابات الصهيونيّة التي أعلنت، في اليوم نفسه، قيام كيانٍ غريبٍ على أنقاض الذاكرة، اسمه إسرائيل. كان ذلك اليوم شرخًا في التاريخ، وانكسارًا في المدى، يومٌ تساقطت فيه الأعمدة التي كانت تشدّ روح الفلسطيني إلى أرضه، وتحوّل الحنين إلى منفى، والبيت إلى ذكرى، والمفتاح إلى تعويذة تُعلَّق على جدار الخيام. ومن هناك بدأت التغريبة الفلسطينية، كرحيلٍ في الوعي والوجدان، إذ صار الفلسطينيّ يمشي وفي قلبه وطنٌ يئنّ ولا يُشفى.
لقد أشرت سابقا إلى أنّ الانتداب البريطانيّ لم يكن استعمارًا فحسب، وإنما هندسةٌ للانقسام، وبناءٌ ممنهجٌ لخرائط التمزّق. فقد نُسج حول الشعب أسوارٌ من الريبة، وأطلق شياطين "فرّق تسد"، لتزرع في الحقول شوك الشكّ بدل سنابل الوحدة، ويُلهي الناس ببريقٍ زائفٍ من المنافع والمناصب. وشيئًا فشيئًا، تحوّل الوعد المشؤوم – وعد بلفور – من ظلٍّ غامض إلى قدرٍ نافذٍ، يسكن العيون، ويملأ الهواء.
ولم يكن الشعر الفلسطينيّ آنذاك قد أدرك تمامًا عمق الجرح؛ ظلّ يدور في فلك الحماسة، يغنّي البطولة، ويغفل عن الوجع الصامت في القرى والحقول. لم يتلمّس معارك الفقر والجهل، ولا نبض العمال والمقهورين، ولم يُشهر الكلمة سيفًا في وجه الجلاد، لم يكتب عن صليل السلاسل في سجون الانتداب، ولا عن الجسد الفلسطينيّ المعلّق على بوابات القهر، كان الشعرُ يومها يودّع الشهداء بدمعٍ جميل، ولا يفضحُ اليد التي أزهقتهم. كان رثاءً أكثر منه مقاومةً.
وحين رحل الإنجليز، لم تهدأ النار، بل ازدادت اشتعالًا. احتلّ اليهود القسطل في نيسان من العام نفسه، فهبّ الحسينيّ وثوّاره، ورفعوا الراية الخضراء على تلالها، قبل أن يسقط القائد شهيدًا، ويتراجع الحلم إلى العدم. ثم جاءت دير ياسين، الحكاية التي تشبه القيامة، حين أطبقت العصابات ليلها على القرية، فسال الحليب دمًا في صدور الأمهات، وتحوّل الصمتُ إلى صرخةٍ لا تنام.
وُلد الشعر الفلسطينيّ من رماد تلك اللحظة، لم يعد غناءً للبطولة، بل جمرًا يتّقد في الحناجر. كتب محمد العدناني رثاءه للحسينيّ كمن يخطّ قسمًا على ثرى القسطل، وجعل هارون هاشم رشيد من القصيدة نارًا تأبى الانطفاء. في قصيدته "صوت اللاجئ"، تحوّل المخيّم إلى مرآةٍ للعذاب الإنسانيّ، وإلى جدارٍ يكتب عليه الفلسطينيّ نشيده الممنوع: سنعود . العودةُ إصرارٌ يولد في كلّ بيتٍ مهدوم، وكلّ طفلٍ بلا فراش.
ومن ذلك التحوّل، صار الشعر سلاحًا آخر، يقاتل بالمجاز حين تُسلب البندقيّة. حمل يوسف الخطيب في "أرض المعاد" وعيًا متفجّرًا بالتاريخ، حين ربط بين سَبْي بابل وسَبْي النكبة، كأنّ الزمان دائرةٌ لا تُكسر، والجلاد واحد وإن تبدّلت الوجوه. أما المتوكّل طه فاستعاد القدس من بين الحروف، وأعادها إلى اسمها الأوّل: يبوس، حيث تنطق الأرض بلغتها البدئية، لغة الحنين والدمّ والمقاومة.
وكتب محمد شمس الدين "ملحمة النازحة"، كمن يدوّن سقوط أندلسٍ ثانية، بالحبر المقاوم، فبدت فلسطين في شعره وطنًا يعبر الأزمنة، لا يشيخ ولا يُنسى، لأنّ ذاكرته من نارٍ ونور.
وهكذا صار الشعر الفلسطينيّ كتاب الذاكرة، وسفر النبوءة، وجدارًا من كلماتٍ يحرس الهوية من المحو. أصبحت القصيدة وثيقةَ ولادةٍ جديدةٍ لوطنٍ لا يموت، ووعدًا يتردّد في أفواه الأجيال: أنّ الأرض التي تُروى بالدم، لا تعرف الغياب، وأنّ القصيدة، حين تُكتب بالدمع والرماد، تصير وطنًا آخر لا يُحتلّ.
صدى النكسة
شكّلت نكسة حزيران عام 1967 منعطفًا فادحًا في الوعي العربي، إذ انكشفت فيها طبقات الذات المضمَرة، وارتجّ الوجدان الجمعي ارتجاجَ الكائن حين يواجه ظله في مرايا الانكسار. كانت النكسة اهتزازًا كونيًّا أصاب البنية الروحية للأمة، فخلخلَ اليقين، وزعزعَ الثقة بالمعنى، وتركَ الثقافة العربية تتلمّس طريقها في عتمةٍ كثيفة من الأسئلة. ومن بين هذا الركام، خرج الأدب العربي وهو يحمل في لغته طعم الرماد ورائحة القيامة، يحاول أن يكتب جرحه بالحبر الذي صار دمًا، ويعيد للأمة صورتها التي انكسرت في المرايا.
في قلب هذا الخراب، ارتفعت القدسُ كجذوةٍ خالدة في رماد الهزيمة، مدينةٌ تتجاوز الجغرافيا لتغدو قلب الأمة النابض بالوجع والعزم، وتحوّلت إلى الرمز الأكبر للغياب، ومهبط الذاكرة التي لم تفقد يقينها بالعودة، وصارت القدس في النصوص الشعرية والنثرية والموسيقية مدارَ المعنى، ومركزَ الثقل الروحي في لحظة تشتّت الكينونة العربية. وظلّت حاضرةً في القصيدة كأنّها النبض الذي لم يخفت، تتجلّى كلّ مرة في هيئة جديدة: وطنًا مصلوبًا، وصوتًا ينهض من الرماد، واسمًا يضيء في الظلمة.
يكتب نزار قباني في "هوامش على دفتر النكسة"، جرح الأمة كأنه يكتب عن القدس ذاتها، فيجعل منها مرآةً لخيبات العرب، وصوتًا يوقظ ما غفا من الضمائر. ومن بين سطور محمود درويش، تصعد القدس من باطن اللغة كأنها قدرُ الكلمة، تتجلّى في كل بيتٍ كحياةٍ تتجدّد، وكينونةٍ تنبض في مسرى الذاكرة. أما سميح القاسم، فقد جعل من القدس وجهًا للصمود الأبدي، وصوتًا يدوّي في المسافة بين الموت والبقاء، بين الحجر الذي يُقذَف والقصيدة التي لا تُطفأ.
وفي الرواية، يتخذ غسان كنفاني من "عائد إلى حيفا" طريقًا إلى القدس الغائبة، فيعيد عبر السرد بناء الذاكرة على حجارة الفقد، فتغدو المدينة سؤال الهوية ومعراج الوعي. تمتدّ أصداء القدس أيضًا في الأغنية الرحبانية، حيث تغنيها فيروز بصوتٍ يقطر حنينًا، فتتحول المدينة إلى لحنٍ سماويٍّ يسكن الأبدية، وإلى وطنٍ يسمع العرب صوته في أعماقهم كلّما أطبق الصمت.
وهكذا تجلّت القدس في أدب النكسة بوصفها قلب الوجدان العربي، وسرّ اللغة التي تكتب نفسها من رماد الهزيمة. فصارت مقامًا للمعنى، وبيتًا للروح التي تتحدى الفناء. فالأدب في تلك المرحلة كتب نشيد القيامة، وأثبت أن في كل هزيمةٍ نطفة ولادة، وفي كل انكسارٍ ضوءًا يتسرّب من بين الشقوق. وهكذا بقيت القدس في وجدان الكلمة وعدًا مؤجلًا، وجرحًا جميلًا يذكّر الأمة بأنها لا تزال قادرة على النهوض كلما كتب شاعرٌ عنها، وكلما نطقت بها القصيدة كأنها صلاةٌ لا تختم.
تحولات الوعي الفلسطيني بين الظل والنور
الحالة الأولى: الوعي الغائب – زمن اللاوعي الثوري
كان الفلسطيني في زمن الانتداب، يعيش على حافة البركان، تتقاذفه الأحلام الكبرى، ويتغنّى بانتفاضاتٍ لا تعرف وجهها.أدبه مزيج من الغضب والحنين، من الثورة التي لا تدرك مسارها. وكانت القصيدة تنادي في الفراغ، والمقالة تزرع التحريض في تربةٍ جافة.
هو زمن اللاوعي الثوري؛ حين اتخذ الفلسطيني البندقية شعارًا ولم يدرك خرائطها، خاض معركته دون أن يعرف وجوه أعدائه أو نوايا أصدقائه، وغاب عنه الوعي العميق الذي يفرّق بين من يحمل راية التحرير ومن يخبّئ الخديعة في راحته.
ومن رحم تلك المرحلة وُلد أدب الثورة الأولى، أدب يكتبه المندفعون بأملٍ أكثر من الوعي، يرددون صدى القضية دون أن يبلوروا صورتها الكاملة.
الحالة الثانية: الأدب المذعور – زمن الذهول بعد النكبة
حين انطفأ الفجر في العام 1948، لم تكن الهزيمة هزيمة الأرض وحدها، وإنّما سقوطُ الوعي في هاوية الدهشة.
تبدّد كل ما كُتب قبلها في ضوء الدم والرحيل، وتحوّلت القصيدة إلى رثاء مفتوح على المنافي.
ولدت مرحلة يمكن تسميتها بـ أدب الذهول؛ حيث وقف الفلسطيني أمام خرابه العميق، لا يملك إلا أن يكتب ليدفن صرخته.وكانت الكلمات مأوى المشرّدين، والمفاتيح تتدلّى في الأعناق كأنها بقايا هوية، وتجلّت في النصوص صور الغربة، المخيم، القبر المفتوح، والأسئلة التي لا تجد صدى.
فكانت القصيدة سؤالًا مؤجلًا في وجه التاريخ، وعيونًا دامعة تنظر من وراء الأسلاك إلى بيتٍ ينهار كل يوم.
الحالة الثالثة: الوعي المقاوم – زمن الأرض المستيقظة بعد النكسة
بعد عام 1967، تحوّل البكاء إلى حديد، وتحوّلت القصيدة إلى نصلٍ لغويٍّ يعيد تشكيل الروح، مرحلةٌ انبثق فيها الوعي من رماده، فأخذ الأدب الفلسطيني شكلًا جديدًا، لم يعد رثاءً ولا مراثي، بل خطابًا يمشي على حدّ السكين.
هي مرحلة الوعي المقاوم، التي جعلت من الأرض محور الوجود، ومن الإنسان حجر الأساس في معركة البقاء.
القدس في الأدب العربي حضور لا ينام، ونبض لا ينطفئ، وحبرٌ يرفض أن ينسلخ عن الأرض والذاكرة. منذ الانتداب، وكلّ كلمة كانت صرخة، وكلّ بيتٍ قصيدةٍ تتجاوز الزمان والمكان، تحمل القدس في قلبها، وتحرس الوعي كما تحرس الشمس الضوء.
من نكبة 1948 إلى نكسة 1967، سطّر الأدب رحلة الوعي الفلسطيني، من اللاوعي الثوري، إلى الذهول المدوّي، وصولًا إلى الوعي المقاوم. كلّ نصّ، كلّ حرف، كان حجر أساسٍ في صرح الصمود، وكلّ قصيدة كانت نصلًا يقطع الظلام، ويعيد للإنسان مكانته، ويعيد للقدس قلبها الذي لا يخفت.
الأدب هو فعل وجود، هو روح الأمة التي تصنع ذاتها في مواجهة الانكسار. هو مرآة تصوّر الألم والجراح، ومصدر نور يضيء طريق العودة، رسالة لكل الأجيال: الأرض باقية، والقدس حاضرة، والهوية صامدة. الكلمة الفلسطينية نبوءة للحياة التي تتجدد، ومقدس للحرية التي لم تتوقف لحظة عن الحلم.
في النهاية، يظل الحبر الفلسطيني مقاتلاً، والوعي فلسطينيًا خالدًا، والقصيدة وطنًا لا يُغتصب، وذاكرةً لا تموت، ونورًا يستمر في السطوع في عتمة الزمن، ينادي كل من يسمع، كل من يقرأ، أن فلسطين لا تغيب، وأن القدس لا تنام.
المراجع
عارف، العارف: تاريخ القدس. دار المعارف، مصر.
الكسواني، ناهدة: تجليات القدس في شعر وديع البستاني. مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية / جامعة بابل، العدد 35، تشرين أول/ 2017.
مصطفى، علي خالد: الشعر الفلسطيني الحديث. منشورات وزارة الثقافة والفنون، الجمهورية العراقية، 1978.
ياغي، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث- من أول النهضة حتى النكبة. ط2، دار الآفاق العربية، بيروت، 1981.
الأسطة، عادل: أدب المقاومة من تفاؤل البدایات إلى خیبة النهایات. ط2، وزارة الثقافة الفلسطینیة، 2008.