تحديثات الأخبار

 لم يكن المخيمُ رقعةً جغرافية يحَدُّها الشوكُ والنسيان، بل كان كائناً من غبارٍ وذاكرة، يمشي على قدمين متعبتين، ويقتاتُ على وجع القاطنين فيه، كان "عائد"، لكنه مع مرور العقود استحال إلى غولٍ أليف، يتنفسُ من ثقوب الجدران، ويصغي بأذنين من طينٍ لثرثرة الرصاص وخيبات الفجر، إذا أرهفتَ سمعك إلى ترابه، لم تسمع حفيف الريح، بل سمعتَ صدى خطى الذين عبروا ولم يصلوا، ونشيج الأمهات اللواتي خبأن المفاتيح في صدورهنّ حتى صَدَأت الصدور وضاعت الأقفال.

في ذلك المساء، كانت الشمسُ تجرُّ أذيالها الصفراء فوق الخراب، تنحني كعجوزٍ أضناها السفر خلف تخوم المخيم، جلست نور على حجرٍ كان يوماً عتبةً لبيتها، لم تجلس لتستريح، بل لتلملم شتات جسدها الذي بعثرته الغارات، كانت تشعرُ بيقينٍ غريب، أنها لم تعد تسكن هذا المكان، بل إن المكان هو الذي يسكنها، يعيد ترتيب أنفاسها قسراً، ويضغط على رئتيها ليُخرج منهما هواءً قديماً معبأً برائحة القهوة والبارود.

مدت يدها ولمست التراب وكان دافئاً، فسرى تحت أصابعها نبضٌ خفيٌ، هل هذا دفء الأرض أم حرارة الأقدام التي فرّت ذات فجرٍ مجنون، وتركت ظلالها عالقةً على الجدران؟ همست في رُوعها، دون أن تحرك شفتيها: أأنتَ بخير؟ لم يأتِها ردٌّ رخامي، لكنّ الصمت الذي خيّم كان أثقل من أي جواب، صمتٌ يوسفي النكهة، يضجُّ بالحياة رغم الموت الظاهر.

 استعادت نور في لحظة مباغتة وجه جدها كنعان، الذي قال لها ذات يوم، وهي تراقبه يرمم جداراً مائلاً: المخيم لا يُهدم يا بنيتي.. المخيم يتبدّل شكله فقط، كالماء يأخذ شكل الإناء، وإناؤنا اليوم هو الشتات. لم تدرك حينها أن الكلمات نبوءة، اليوم وهي تقف على ركام بيتها، فهمت أن البيوت هنا ليست إلا نسخاً مشوهة من بيوتٍ أخرى سقطت، وأن كل زقاقٍ ليس إلا مسودة لشارعٍ مفقود في هناك البعيدة، لماذا نعود؟ هل لأننا أدمنّا الألفة مع الهزيمة، أم لأن المكان يغرس فينا مخالبه كلما حاولنا التحليق؟ تذكرت رحيلها الأول، كانت في الخامسة، تحمل دميتها يافا التي فقدت عيناً في الزحام، ضحكت يومها لأنها ظنت الرحيل نزهة، ولم تعرف أن الوجع لا يكمن في الرحلة الأولى، بل في تحوّل الرحيل إلى مهنة، وفي أن يصبح الخراب هو الخلفية الدائمة لصورها الشخصية.

أختي.. جاءها الصوت هشاً، يقطر بؤساً مقدساً، التفتت لتجد طفلاً يقف وسط الفراغ، يُدعى سراج، كان وجهه لوحةً زيتية رسمها الغبار، وفي يده كيسٌ بلاستيكي يحوي بقايا دفترٍ وقلم رصاص بُرِيَ حتى تلاشى، أشار سراج بيده الصغيرة إلى مساحة خالية من كل شيء إلا الهباء: "هل هذا بيتنا؟ غصّت نور بكلماتها، كيف تشرح أن البيت صار فكرة، وأن الجدران غادرت لتترك مكانها فارغاً له ثقل الحجر؟ قالت بصوتٍ مخنوق: كان بيتاً يا سراج.. وسيكون... جلس الطفل بجانبها في المخيم، لا أحد يستأذن أحداً، فالمصاب مشاع، والظلُّ ملكية عامة، قال بيقينٍ طفولي صادم: أمي قالت إن البيت لا يضيع، هو فقط يختبئ تحت الأرض حين يغضب من القصف.

وعند نبضة الزمن شعرت نور بأن المخيم الآن ليس مجرد خلفية، إنه الشخصية المركزية التي تبتسم بسخرية من قدرها، لو تكلم لقال: "أنا لا أحميكم بالجدران، بل أحميكم بالمعنى". هو يعرف أن البيوت ليست إسمنتاً وحديداً، بل هي رائحة الزعتر في كف الأم، وضحكة الأب التي قصفها الطيران.

فتح سراج دفتره وكان نصفه محترقاً تماماً كأحلام القاطنين هنا، وقال بخجل: المعلمة طلبت أن نكتب موضوعاً عن بيوتنا، نظرت نور إلى الورق المتفحم، وأدركت أن الكتابة هنا ليست ترفاً، بل هي فعلُ مقاومةٍ ضد العدم، الكتابة هي الطريقة الوحيدة لترميم سقفٍ سقط، أو استعادة حديقةٍ صودرت...، قالت له بنبرةٍ فيها صارخة صرخة الروح عند صراع الجسد: اكتب عن المخيم يا سراج.. اكتب أنه البيت الذي لا يسقط لأنه مسكونٌ بأرواحنا، لا بحجارتنا.

لمعت عينا سراج، وبدأ يخطُّ حروفاً بدت لنور وكأنها بذورٌ تُزرع في سبخة النسيان، حينها نفضت غبار الهزيمة عن ثوبها المطرّز بالصبر، مدت يدها لسراج، وقالت بصرامةٍ تليق بامرأةٍ ولدت من رحم الركام: سنبني جدران العودة، فالعودة ليست رحلةً في الجغرافيا، بل هي استردادٌ للذات من بين أنياب التشريد.

حين غاب الضوء تماماً، بدا المخيم في الأفق كظّلٍ طويلٍ لوطنٍ لم يكتمل بعد، لكن نور كانت تعرف، وهي تمشي بين الأزقة الضيقة التي تفوح منها رائحة البقاء، أن الظلال لا توجد إلا بوجود الضوء، شعرت بالمخيم يمشي بجانبها، يحرسها من الزوال، ويهمس في أذن الريح: لسنا نحن من نحرس المخيم، بل هو من يحرس حكايتنا من النهاية... سكن كل شيء، إلا من صوت قلم سراج وهو يحفر في ورقةٍ محترقة.. يعلن للعالم أن الحكاية، رغم "ظلال الرحيل"، ما زالت في فصلها الأول.