نابلس انشودة الجبلين وتجليات الذاكرة في مكان يتنفس التاريخ
بقلم الباحثة أماني حسن حمدان- نابلس
أفتح نافذتي مع الفجر، فيطلّ عليّ جرزيم وعيبال كأبوين يمدّان ذراعيهما ليحتضنا المدينة. أسمعهما يتهامسان: "انهضي يا ابنة نابلس، فاليوم يبدأ من عينيكِ". أبتسم وأقول لنفسي: أنا لا أعيش بين جبلين، بل بين جناحين يرفعانني كل صباح إلى مقامٍ من الصفاء.
أمشي في الأزقة الضيقة، فأسمع وقع خطواتي يتردّد بين الحجارة. لكن الحجارة لا تصمت
إنها تهمس لي: "لقد عبرنا معكِ طفولتكِ، وحفظنا ضحكاتكِ حين كنتِ تركضين بيننا". أبواب البيوت الثقيلة تفتح لي حكاياتٍ لا تنتهي، والشبابيك الخشبية تراقبني كعيونٍ تعرفني منذ طفولتي. أستعيد فجأة صورة جدّتي وهي تناديني من شرفةٍ عالية، صوتها يختلط برائحة الخبز الطازج، فأبتسم وأقول لنفسي: هذه الأزقة ليست طرقًا للعبور، بل أبياتٌ من قصيدةٍ طويلة، وأنا أقرأها بذاكرتي قبل عيني.
في الأسواق، تختلط الأصوات بالذاكرة، في سوق البصل، تفوح الرائحة كأنها صلاةٌ من ترابٍ وزرع، وأسمع أكوام البصل تهمس: "نحن ذاكرة الأرض، نروي حكاية العرق والكدّ". وفي سوق الذهب، أرى الحليّ تلمع كأنها نجوم صغيرة تقول لي: "نحن أحلام النساء، نخبئ في بريقنا أسرار القلوب". أما خان التجار، فيبدو كأنه مسرحٌ يوميٌّ للحياة، حيث الأصوات تتعانق في سيمفونيةٍ من البيع والشراء، حتى الجدران هناك تهمس: "لقد شهدنا آلاف الصفقات، وسمعنا آلاف الحكايات".
أعود إلى البيت، أسمع صوت الماء يتدفق من عين القريون، لكنه لا ينساب صامتًا، بل يغني لي: "أنا أنفاس المدينة، أسقيها منذ قرون، وأروي عطشها الأبدي". أستعيد ذكرى طفولتي حين كنتُ أملأ الجرّة مع أخواتي، نضحك حين يتساقط الماء على أيدينا، فأدرك أنّ هذه العيون ليست مجرد ينابيع، بل هي شرايين نابلس، موسيقى الطبيعة التي تسقي الناس وتروي الأرض.
وفي البساتين، الزيتون يرافقني كظلٍّ دائم. أمدّ يدي إلى غصنٍ فأشعر أنّه يهمس لي: "أنا شجرة العائلة الكبرى، جذوري في الأرض وثماركِ في الذاكرة". أتذكر يومًا كنتُ أساعد أهلي في قطف الزيتون، أضع الثمار في السلال، وأسمعها تقول لي: "احفظينا في قلبكِ، فنحن رمز الصمود والخلود"
ومع الغروب، يتحوّل الأفق إلى محرابٍ من نورٍ وظلال. أرى الجبلين يكتنفان المدينة كأمٍّ تحتضن أبناءها، وأسمع الأسواق تخفت أصواتها لتفسح المجال لصوت المؤذن يرتفع من المآذن. حتى المآذن تنطق: "نحن أصوات السماء، نرفع الدعاء فوق الجبلين". أقول لنفسي: نابلس ليست مدينةً أعيش فيها، بل روايةٌ أعيشها، أنشودةٌ تتردّد في داخلي كلما خطوتُ بين حجارتها.
أغلق يومي وأنا أتمتم: نابلس هي أنا، وأنا هي نابلس. هي الذاكرة التي تسكنني، وهي الحكاية التي أرويها، وهي النصّ الذي يكتبني كما أكتبه. حتى الجمادات هنا ليست جمادات، بل أرواحٌ تتحدث، وأنا أسمعها وأجيبها، كأن المدينة كلها تتحوّل إلى قصيدةٍ حيّة تنطق بلساني.