لطالما كانت المرأة ركيزة أساسية في بناء المجتمعات الإنسانية، فهي الأم والمربية، وهي العاملة والمفكرة والمبدعة. لكن حضورها في الحياة العامة ظل لفترات طويلة محصوراً داخل أطر ضيقة، رسمتها تقاليد وأعراف اجتماعية راسخة. ومع تطور الزمن، وظهور الحركات الداعية إلى المساواة وتمكين المرأة، بدأ صوتها يعلو أكثر فأكثر، مطالبة بحقوقها في التعليم والعمل والمشاركة السياسية والاجتماعية. وهنا برزت إشكالية التوازن بين تمكين المرأة من جهة، ومقاومة بعض العادات التقليدية التي تحد من حضورها وتساهم في تقييد إمكانياتها من جهة أخرى.
أولاً: مفهوم تمكين المرأة
يشير تمكين المرأة إلى العملية التي تهدف إلى تعزيز قدراتها ومهاراتها ومنحها الأدوات التي تساعدها على المشاركة الفاعلة في المجتمع. لا يقتصر التمكين على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يشمل أيضاً المجالات التعليمية والسياسية والاجتماعية والثقافية. فتمكين المرأة يعني أن تُتاح لها الفرص المتساوية في التعليم، وأن تُرفع الحواجز أمام مشاركتها في سوق العمل، وأن يُسمح لها بالتعبير عن رأيها والمشاركة في صنع القرار.
إن تمكين المرأة لا يُعتبر ترفاً أو مطلباً فردياً، بل هو شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة. فالمجتمعات التي تُقصي نصف سكانها عن الفاعلية والإنتاج، تفقد نصف طاقتها وقدرتها على التطور.
ثانياً: العادات التقليدية كمعيق لدور المرأة
رغم التقدم الحاصل في قضايا المرأة، لا تزال بعض العادات التقليدية تمثل تحدياً أمامها، حيث تقيّد أدوارها وتختزلها في أدوار نمطية. من أبرز هذه العادات:
1. الزواج المبكر: ما زالت بعض المجتمعات تنظر إلى الزواج المبكر كوسيلة لحماية الفتاة، في حين أنه يحرمها من التعليم ويحد من قدرتها على التطور الشخصي والمهني.
2. التفرقة في التعليم: في بعض البيئات، يُنظر إلى تعليم الفتاة على أنه أقل أهمية من تعليم الشاب، مما يؤدي إلى فجوة معرفية وفرص أقل للنساء.
3. العنف الأسري والاجتماعي: ممارسة العنف ضد المرأة تحت ذرائع الشرف أو الطاعة العمياء للتقاليد يحرمها من الشعور بالأمان والقدرة على التعبير.
4. تقييد حرية العمل: بعض العادات تمنع المرأة من الانخراط في ميادين عمل معينة أو تضع قيوداً على حركتها، مما يحرم المجتمع من طاقاتها.
5. الصورة النمطية للمرأة: حيث تُصوَّر المرأة غالباً كعنصر ثانوي يعتمد على الرجل، وهذا يعكس نفسه على التربية والإعلام وحتى على التشريعات.
ثالثاً: العلاقة بين التمكين ومقاومة التقاليد
لا يمكن الحديث عن تمكين المرأة بمعزل عن مواجهة التقاليد المقيدة. فالمجتمع الذي يرغب في التقدم لا بد أن يوازن بين احترام القيم الأصيلة التي تعزز مكانة المرأة، وبين التخلص من العادات التي تقيّدها وتمنعها من المساهمة في البناء.
إن مقاومة بعض العادات التقليدية لا تعني بالضرورة القطيعة مع الهوية الثقافية، بل تعني إعادة النظر في الممارسات التي لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر. فمثلاً، يمكن للمجتمع أن يحافظ على قيم الأسرة والتكافل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه يضمن حق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة.
رابعاً: نجاحات المرأة في ظل التحديات
على الرغم من التحديات، استطاعت نساء كثيرات كسر الحواجز وتحقيق نجاحات مميزة في مختلف المجالات:
في التعليم: ارتفعت نسب التحاق الفتيات بالجامعات في معظم الدول العربية والعالمية، حتى تفوقت في بعض التخصصات على الذكور.
في سوق العمل: أصبحت المرأة حاضرة في مجالات الطب، الهندسة، الإعلام، الأعمال الحرة وحتى المناصب القيادية.
في السياسة: دخلت المرأة إلى البرلمانات والمجالس البلدية وتولت مناصب وزارية ورئاسية في بعض الدول، مما عزز صوتها في صناعة القرار.
في الحقل الثقافي والفني: أبدعت نساء كثيرات في الأدب والفن والإعلام، وكنّ سفيرات لثقافة شعوبهن على الساحة الدولية.
هذه النجاحات تؤكد أن تمكين المرأة ليس شعاراً نظرياً، بل حقيقة واقعية متى ما أُتيحت لها الظروف المناسبة.
خامساً: دور المجتمع في التمكين
لكي تنجح عملية تمكين المرأة، لا بد أن يكون هناك تكاتف مجتمعي يشمل:
1. الأسرة: فهي البيئة الأولى التي تُرسخ قيم المساواة وتدعم الفتاة منذ طفولتها.
2. المدرسة: من خلال مناهج تعليمية تشجع الفتيات على الطموح والإبداع، وتكسر الصورة النمطية عن أدوارهن.
3. الإعلام: بتسليط الضوء على قصص نجاح النساء، والتوقف عن تقديم المرأة كعنصر ثانوي أو تابع.
4. التشريعات والقوانين: عبر سن قوانين تحمي المرأة من العنف والتمييز، وتضمن لها فرصاً متساوية في العمل والتعليم.
5. المؤسسات المدنية: التي تلعب دوراً في توعية المجتمع وتنظيم حملات تهدف إلى تعزيز حقوق المرأة.
سادساً: المرأة بين الأصالة والمعاصرة
من التحديات الكبرى التي تواجه المرأة اليوم هو كيفية الموازنة بين التمسك بالأصالة والقيم الثقافية وبين مواكبة العصر ومتطلباته. فالمرأة ليست مطالبة بقطع علاقتها بجذورها الثقافية لتصبح ناجحة، بل يمكنها أن تستمد من هذه الجذور قوة إضافية لمواجهة التحديات.
فالأصالة لا تعني الجمود، والمعاصرة لا تعني القطيعة. والمرأة الواعية قادرة على بناء هويتها الخاصة التي تجمع بين الاثنين.
إن الحديث عن دور المرأة بين تمكينها ومقاومة بعض العادات التقليدية، هو في جوهره حديث عن مستقبل المجتمعات. فالمرأة التي تُمنح فرصتها الكاملة في التعليم والعمل والمشاركة، قادرة على دفع عجلة التنمية إلى الأمام. أما المجتمعات التي تُصر على إبقائها أسيرة لعادات قديمة، فإنها تحكم على نفسها بالتأخر.
الطريق ما زال طويلاً أمام المرأة في كثير من المجتمعات، لكن النجاحات التي تحققت حتى الآن تبعث الأمل، وتؤكد أن التغيير ممكن. ويبقى التحدي الأكبر هو بناء وعي جماعي بأن تمكين المرأة ليس قضية نسوية فقط، بل قضية مجتمعية بامتياز، لأنها تعني تمكين نصف المجتمع من أجل مستقبل أفضل للجميع.