كيف يتم اقتحام وعي أبنائنا عن بعد؟ ولماذا نسمح للغرب بمشاركتنا في تشكيل شخصيتهم المستقبلية؟
هل تساءلت يوما لماذا تنتشر قيم الفردية والاستهلاك والتمرد على التقاليد، والميل لمعايير اجتماعية هجينة، بسرعة قياسية في مجتمعات كانت تعتبر محافظة قبل ثلاثة عقود فقط؟
لم يعد غزو أمة يتطلب إعداد جيوش جرارة وعتاد وإقامة مستعمرات، فتلك باتت ضربا من الماضي، واستبدلت بجنود تبدو وسيمة وغير دموية في ظاهرها، لكن باطنها يحمل في طياته أثرا أشد وقعا، عتادها خوارزميات خفية تبحر على متن منصات افتراضية منمقة بغلاف الحرية والانفتاح.
كما أن الغرب لم يعد يكتفي بتصدير منتجاته لنا فحسب، بل وأنماطا مستحدثة من التفكير والشعور وحتى الرغبة، مستعينا باستراتيجية بنيت على مدى عقود من التفكير والتدبير داخل غرف الاستخبارات ومراكز الدراسات والبحوث الغربية.
كان أول من أدرك أن الهيمنة الثقافية تميل لكفة القوي، هو المؤرخ والفيلسوف العربي ابن خلدون، حين كتب في مقدمته الشهيرة: " المغلوب مولع أبدا بالغالب".
بعد مضي ستة قرون، تبنى نظرية ابن خلدون، المفكر الاشتراكي الإيطالي "أنطونيو غرامشي"، من خلف قضبان سجون "موسيليني"، حين أدرك أن السلطة الحقيقية لا تكمن في البنادق، بل في العقول، معرفا مفهوم الهيمنة الثقافية، بأنها قدرة الطبقة المهيمنة على فرض قيمها وكأنها حقيقة طبيعية، لا كأيديولوجيا قابلة للنقاش.
وللوقوف في وجه الهيمنة الثقافية شدد "غرامشي" على ضرورة بناء ثقافة مضادة تعيد للجماهير وعيها الطبقي، اما اليوم فالمعادلة اختلفت، ولم تعد الثقافة وسيلة للتحرر بقدر ما هي وسيلة احتكار واستحواذ، فمن يملك منصات التواصل، يتحكم بخوارزمياتها ويملك القدرة على تشكيل وعي الآخرين.
وفي هذا السياق، عرّف عالم السياسة الأمريكي "جوزيف ناي" القوة الناعمة، بأنها القدرة على جعل الآخرين يرغبون فيما تريده أنت عبر الجاذبية والرغبة، لا بالإكراه، لكنه في الوقت ذاته أشار بصورة مبطنة إلى أن القوة الناعمة ليست بالضرورة أخلاقية، بل قد تستخدم لتعزيز هيمنة ثقافية خفية، تحت غطاء الحرية والقيم الإنسانية.
وهذا ما يحدث اليوم على أرض الواقع، فالإنترنت الذي أطلق عليه البعض لقب "الفضاء المفتوح"، بنِي على أسس لغوية وتقنية وفلسفية غربية بحتة، تروج لنمط حياة فردي متحرر من القيم الجماعية، واستهلاكي حتى النخاع.
حتى المعرفة المحايدة كالعلوم أو الأخبار تقدّم عبر عدسات وشاشات ومنصات غربية تحدّد ما هو مهم، وما يستحق أن يكون "ترندا"، وما هو مسموح وما هو مرفوض ... والنتيجة المؤكدة أن العالم بات يفكّر بلغة الغرب، حتى حين يقاوم قيمه وأفكاره.
ولم يكتفِ الغرب بانتصاراته العسكرية على الشرق بشقيه الإسلامي والآسيوي باعتبارهما المنافسين الأكبر لقيمه، بل سعى لتتويجها بالهيمنة الفكرية مستعينا بفلاسفته ومنظريه ومراكز بحوثه الاستشراقية.
يعتبر الباحث السياسي والفيلسوف الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" عرّاب الترويج للهيمنة الفكرية والتوعوية على الأمم الأخرى، وجاء بنظريته الشهيرة "نهاية التاريخ"، معلنا أن الليبرالية الديمقراطية هي الشكل النهائي للحكم البشري.
سار على نهجه "صموئيل هنتنغتون"، الباحث في جامعة هارفرد، وصاحب نظرية صدام الحضارات كمبرر استراتيجي لاستمرار التدخل الغربي في شؤون الدول الأخرى، وتحديدا النامية، وبدلا من الحوار، قدّم سيناريو صراع لا مفرّ منه، وضع فيه الحضارة الغربية في موقع الدفاع عن القيم "الإنسانية" ضد المنظور الإسلامي الذي وصفه بـ"الدموي"، وكذلك الاشتراكي والآسيوي، حتى أن واشنطن بوست نشرت مقالا في سبتمبر 2017 عنه بعنوان "أثر نبوءات "صموئيل هنغتون" على سياسات الولايات المتحدة"، وسماه بعض الحللين، "ملهم ترامب ونبي السياسة الأمريكية".
وكلا الباحثين دعا لتدعيم القوة العسكرية بـ "القوة الناعمة"، وصولا إلى الحتمية التاريخية التي تتوافق مع القيم الأمريكية، وها نحن اليوم، نلمس أثر نظرياتهما داخل بيوتنا عبر المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى بتنا غير قادرين على التخلص منها أو العيش دونها.
تحوّلت استراتيجية الغزو الثقافي الغربي الجديدة بفضل الثورة الرقمية إلى آلة ذكية أعادت تشكيل الوعي البشري بسرعة فاقت خيال دعاتها، حتى أننا لم نعد نشعر أنها تغزونا بقدر ما نشعر بحاجتنا الملحة إليها.
ولم يعد اقتحام الوعي محدودا بالكتب الصحف أو الإعلام التقليدي بأشكاله الكلاسيكية المختلفة، بل عبر خوارزميات ذكية تعرف ما نحب قبل أن ندركه، فمن خلال تتبع سلوكنا واهتماماتنا ومشاهداتنا عبر التكنولوجيا وأجهزة التنصت التي تعتبر من مكوناتها الأساسية، وتحديد ما نعجب به، ما نتوقف عنده، ... تبني هذه الخوارزميات صورة رقمية لوعينا، لتغذينا لاحقا بالمحتوى الذي يعزّزها، ويقصي أي تفكير نقدي خارج إطارها.
وفي المحصلة، لا يتم فرض القيم الغربية بالقوة العسكرية بل تتسلل إلى بيوتنا وعقولنا ووعينا، وتستحوذ على شعورنا وعواطفنا، لتصبح القيم المجتمعية مقابلها مجرد قيود تقليدية عفا عليها الزمان، ويقدّس فيه الفرد على حساب الأسرة والمجتمع، وينمّق التمرد والشذوذ والإباحية والعنف وثقافة "الهولوين" والإساءة لمعتقدات الآخرين، وتقدّم بغلاف الحرية الشخصية، "كافر من يحاول المساس بها".
ولعل المسرح الأكبر والأسرع لاقتحام الوعي تتوج خلال السنوات الأخيرة عبر منصة "تيك توك"، التي صممت لتصنع جيلا لا يقرأ الكتب والمقالات، ولا يرغب في مشاهدة البرامج الثقافية والوثائقية، ولا الأفلام الكلاسيكية، بل يستهلك جلّ وعيه في مقاطع الفيديو التي تتمثل قوة إيقاعها وتأثيرها النفسي في قصرها واحتوائها على رسالة واحدة.
وبالرغم من أن هذه المنصة قد تستخدم لنشر محتويات ثقافية وتعليمية، إلا أن جوهر بنيتها هو الترويج للتفكير السطحي السريع الذي يعتمد في المقام الأول على رغبة وسلوك المتابع وما يجذبه وما لا يجذبه، والأكثر خطورة، أن خوارزمياته لا تميزّ بين الحقيقة والوهم، فالمعلومة المضلّلة قد تنتشر أسرع من الحقيقة، والترفيه السطحي يطغى على المحتوى الهادف، وتزرع المفاهيم عبر التكرار، لتتحول إلى بديهيات لا نقاش فيها لدى الكثيرين.
إن مقاومة الغزو الفكري لا تعني رفض التكنولوجيا، كما أن شيطنة العالم لا تعني أن الغرب شرّ مطلق، فكما أن لدينا قيم تستحق أن نصدرها للأمم الأخرى، هنالك أيضا قيم تستحق أن تستورد من الغرب، وأخرى لا تتوافق مع قيمنا، وعلينا الانتقاء والتدقيق بعناية بالغة فيما يتم تصديره إلينا.
وبما أن التقنية ليست محايدة، فمن يصنعها، يتحكم بمحتواها ويوجّهها بما يراه ملائما لقيمه، فإن المطلوب اليوم هو توعية الأجيال الناشئة وتوجيههم على كيفية التعامل مع هذه التقنيات والمنصات، وتحذيرهم من مخاطرها وكمائنها، وحثهم على التفكير والإنتاج، لا على التصفح والاستهلاك دون وعي وانتقاء، ويتوجب على صناع القرار العربي دعم إنتاج محتويات رقمية تعكس قيمنا، وتقف سدا منيعا في وجه الزحف الفكري الهجين على مجتمعاتنا.
وعي أجيالنا الناشئة أمانة في أعناقنا، وهو آخر معقل من معاقل قيمنا وهويتنا الحضارية والثقافية ورسالتنا الخالدة، وعلينا حمايته والدفاع عنه بكل ما أوتينا من قوة وحكمة قبل فوات الأوان.