تحديثات الأخبار

بعين واحدة نازفة وقدمين مكسورتين، كان غسان دردونة يزحف على الأرض متجاهلاً جراحه، باحثاً عن طفلته الصغيرة إنعام التي قذفتها الغارة الإسرائيلية بعيداً عن المنزل.

 وبينما كان الصمت سيد الموقف، استمر غسان بالزحف وسط الحطام ورائحة النيران والبارود تكاد تكتم أنفاسه، حتى اصطدم بقدمي طفلته التي غمرت الرمال رأسها ونصف جسدها العلوي في الحديقة المجاورة لمنزلهم.

 بدأ غسان بالحفر بيديه العاريتين حتى تمكن من إخراج إنعام، كانت فاقدة للوعي، وقد ساعده كونه ممرضاً من تقديم الإسعاف الأولي لها وإخراج الرمال من أنفها وفمها، فأنقذها من بين فكي الموت بأعجوبة.

كانت إنعام مصابة بحروق وكسور في مختلف أنحاء جسدها الصغير، وبعدما تم نقلها بالإسعاف لتتلقى العلاج في المستشفى الإندونيسي بجباليا، حاول غسان انتشال والديه من تحت أنقاض منزلهم المدمّر.

نجاة الطفل محمد المقيد مرتين

أما الطفل محمد المقيد 15عاماً، فقد قذفته قوة انفجار الصاروخ الذي سقط على منزله بعيداً، بينما اختطف الموت أمه وإخوته وجدته دفعة واحدة، ليبقى شاهداً على فاجعة ستبقى راسخة في ذكرته إلى الأبد.

وعندما استيقظ بعد أسبوع، تلقى الصدمة التي لم يكن يتخيلها يوماً ما، لكن الغارات لم تمنحه سوى 24 ساعة فقط لاستيعاب ما حدث، حتى باغتته غارة أخرى قضت على جده الذي اختار المسجد ملجأً بعد فقد بيته، حيث قُصف المسجد ليسقط على رؤوس من فيه، عقب خروج محمد منه بنحو  خمس دقائق.

لم تعطِ النجاة مرتين متتاليتين لمحمد شعوراً بالأمان، بل عززت لديه فكرة ملاحقة الموت له، يقول: " أنتظر دوري، وأشعر أنّي سألتحق بعائلتي وأكون شهيداً في أي وقت، فكوني نجوت من الموت مرتين، لا يعيني أنني سأنجو في كل مرة".

ورغم مرور شهور على نجاة محمد، إلا أنه لم يشفَ من آثار الصدمة بعد، يقول : "مكثت شهوراً حتى استوعبت ما حدث معي، ومع كل صباح أشعر أن تلك الذكرى المؤلمة، حدثت بالأمس، لا أجد معنى لهذه الحياة دون أحب الناس إلى قلبي".

المأساة التي شهدها محمد وآلاف الأطفال مثله أعادت تشكيل وعيهم وفهمهم للحياة، فما تعلموه وقراؤوه في الكتب المدرسية عن المذابح والقبور الجماعية أضحى حقيقة عايشوها وذاقوا مرارتها بأنفسهم.

يقول محمد: "أؤمن بأن هذا قدري، وأنه خير لي حتى لو لم أكن أعلم ماهيته، فما مرت به فتح بصيرتي على نعمة وجود العائلة التي لم أكن أعرف قيمتها حقاً، فقد كانت شيئاً اعتيادا".

ويتابع وهو يحبس الدموع في عينيه: "لا اعتراض على حكم الله، وأؤمن أنه سيعوضني خيراً، وسألتقي بأمي وإخوتي في الجنة".

نجاة الطفل إيليا أبو طير

أصيب الطفل إيلياء أبو طير، 12 عاماً، بجراح وحروق خطيرة جرّاء سقوط صاروخ بالقرب من منزلهم، وبينما كان غائباً عن الوعي تحت تأثير المخدر عقب عملية جراحية أجراها في المستشفى البلجيكي بمدينة الزوايدة وسط القطاع، كان يرتل القرآن تارة، ويدعوالله بالرحمة تارة أخرى..

وبعد استيقاظه، علم إيلياء باستشهاد أخيه إلياس وبإصابة أخيه عدي إصابة خطيرة، الأمر الذي يبكيه ويعتصر قلبه على الدوام، ويقول: "ألمي أكبر من حروق الجسد".

وعندما سئل إيلياء: "هل تتمنى أن تتمكن من العيش كباقي أطفال العالم؟"، أجاب مستهجناً: "أطفال العالم؟! لم أعد أرغب بالحياة في عالم ظالم، يساندون من يقتلنا ويعلمون أبناءهم القسوة والأنانية، لا أريد أن أكون مثلهم".

في غزة، لم تعد الطفولة براءة مصانة ولا أحلاماً مرسومة بالألوان الزاهية، بل كوابيساً يومية يستيقظ منها الصغار على أصوات الانفجارات، ثم يعودون إليها وهم يحتضنون صور أحبتهم الذين رحلوا عنهم دون سابق إنذار، فمن نجا منهم من الموت، بات شاهداً على جرائم يندى لها الجبين، وتقشعر منها الأبدان.