تحديثات الأخبار

الرحلةُ في التراث العربي ارتحالٌ في المعنى، وسفرٌ في الروح، ومناجاةٌ للكون من خلال المكان. ومن بين الرحلات التي تركت أثراً بالغاً في الأدب الصوفي والإنساني، تبرز "الرحلة إلى بيت المقدس" للشيخ عبد الغني النابلسي" بوصفها نموذجاً فريداً لمزج التجربة الدينية بالتأمل الجمالي، ولتحويل المكان المقدّس إلى فضاءٍ رمزيٍّ تتجلّى فيه أسرار الروح واتساع الرؤية الإنسانية.

 كانت القدس – في نظر النابلسي – محرابَ النور ومهوى الأرواح، ولم يذهب إليها سائحاً ولا مؤرّخاً، بل زائراً يتطهّر بالمعنى، ويبحث في الحجر عن إشراق السرّ الإلهي. جاءت رحلته نصاً يجمع بين الشعر والنثر، بين المشاهدة والذِّكر، وبين تدوين الواقعة واستنطاق الدلالة.
يهدف هذا التقرير إلى قراءة هذه الرحلة في ضوء جوانبها التاريخية، والروحية، والجمالية، والفكرية، مع إبراز أثرها على صورة القدس في الوعي الأدبي العربي.

 حين يكتب الصوفي رحلته، فإنّ الورق يتحول إلى طريق، والمداد إلى خطى السالكين نحو الحقيقة. هكذا كانت رحلة الشيخ عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي، إمام العلماء العارفين في عصره، الذي ركب صهوة الروح قبل أن يركب دابّة السفر، ميمِّمًا وجهه نحو بيت المقدس الشريف، قلب الشام النابض وسرّها المكنون.

نُشرت هذه الرحلة في كتاب عنوانه «الحضرة الأُنسيّة في الرحلة القدسية» تضم بين دفّتيها مزيجًا من السرد التاريخي، والوصف الجغرافي، والتأمل الصوفي، والنظم الشعري، حتى يخال القارئ أنّه أمام وثيقة تجمع بين العقل والروح، وبين العلم والعرفان.

ولد عبد الغني بن إسماعيل النابلسي في دمشق ، ونشأ في بيتٍ عريقٍ بالعلم والصلاح، فغذّته الكتب بروحها، وألهمه التصوف لغته الداخلية.
 حمل في قلبه همَّ الكشف، ورأى في الوجود خطابًا إلهيًا تُتلى حروفه في الكائنات، فكان يرى في كل سفرٍ عبادةً، وفي كل مشهدٍ طريقًا إلى الحقيقة.
تنوّعت رحلاته بين مدن الشام والحجاز ومصر، غير أنّ رحلته إلى بيت المقدس كانت المَعلَم الأسمى، لأنها جمعت بين المكان والمقدّس، وبين البصيرة والوجدان

الزمن والمكان: توثيق السائر والساكن

ابتدأ النابلسي رحلته من دمشق فجر يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الآخرة سنة (1101هـ)، ووثّق كل يوم من أيامها الأربعة والأربعين، توثيق المؤرخ المتثبت لا السائح العابر.

لم يكتفِ النابلسي بذكر الأمكنة، وإنّما شدّها إلى أفق الزمان بخيطٍ من الدقة، حتى غدت الرحلة تقويماً شعرياً للخطوات. وعاد إلى دمشق يوم الأربعاء، أول أيام شعبان من العام نفسه، مؤرّخًا عودته على عادة العلماء في عصره بحساب الجُمّل، قائلاً:

"ونلنا فضله أرّخ برحلة قدسه الأكرم"

إنها كتابة تتنفس من وعيٍ بأنّ المكان لا يعيش إلا بالزمن، وأنّ الزمان لا يُخلّد إلا بمداد العارفين.

هدف الرحلة: منازل الروح في مدن الأنبياء:

رحلةُ النابلسي امتدادٌ لصفاء القلب ومسراه في دروب المعنى، انطلقت من حضورٍ باطنيٍّ يفيض بالذكر، وتوشّحت بروحٍ تسير على خطى النور. أفصح عن مقصدها في خاتمةٍ شعريةٍ تجلّت فيها أنفاس الولاية وضياء الكلمة، يقول النابلسي:

وباسم الله سافرنا وعُدنا باسمه الأعظم        وزرنا الأنبيا والأولياء من جاههم يُخدم

 تشرق من هذه الأبيات نيةُ البركة واستغراقُ الروح في منازل الصفاء، حيث تتعانق الأرض بأنوار السماء. وفي هذا المقام أهدى النابلسي القدس أعمق ما في وجدانه من محبةٍ وتبجيل، فاختار لها مقام السيدة بين المدن، ولقّبها أمّ المدن ورئيستها وسيدة بلدان الشام، تنبع منها الأنوار وتُحاط ببهاء الحضور الإلهي.

ويخطر في بالي التساؤل التالي : هل كانت رحلة النابلسي إلى بيت المقدس جزءاً من مشروعه الروحي في السير إلى الله عبر الأمكنة المباركة؟ فكما حجّ إلى مكة وزار المدينة،    هل قصد القدس؛ ليجمع بين "ثلاثة أنوار": نور النبوّة، ونور الولاية، ونور الإسراء والمعراج؟

دمشق والقدس: تآخي المكانين في الذاكرة الصوفية

في دمشق بدأ النور، وفي القدس اكتمل. ومن هناك دوّن النابلسي ملامح دمشق الروحية، زائرًا الجامع الأموي وضريح النبي يحيى عليه السلام، ومقام السيدة زينب، وقبور الصحابة والصلحاء، حتى بدا كمن يقرأ تاريخ المدينة من بين حجارتها.

ثم عبر نحو فلسطين، حيث المدن تتراءى أسماءً في مصحف الجغرافيا المقدّسة: نابلس، سبسطية، الخليل، بيت لحم، بيت المقدس. وفي كل موضعٍ كان يترك سطرًا من وصفٍ ، يجمع بين دقة المؤرخ وعين الشاعر.

الرحلة وثيقة جغرافية ودينية

حصى النابلسي في رحلته ست مدنٍ كبرى وتسعًا وعشرين قرية، وذكر اثنين وثلاثين مقامَ نبيٍّ، وأربعة أديرة وكنائس، واثني عشر نهرًا وعين ماء، وأكثر من ثمانين قبرًا لصحابة وأولياء وصالحين.

بدت الرحلة سجلًّا ميدانيًا لما يمكن أن نسمّيه "الخرائط الروحية لبلاد الشام"، وهي مادة غنية للباحثين في الجغرافيا التاريخية والدراسات الدينية.

وفي أثناء وصفه لمواقع القبور والأضرحة، دعا المؤلف، وهو العارف الصادق، إلى توثيق تلك المقامات علميًا، لا مجرّد رواية، مؤكّدًا أنّ ذاكرة الأمة لا تصان إلا بالبحث والتحقيق.

الرحالة العالِم: عين الباحث ولسان الأديب

يُظهر النابلسي في رحلته روح الباحث الموسوعي؛ فهو يصف الطبيعة والنباتات والأنهار، ويشرح الألفاظ، ويقارن المسافات، ويردّ على التصحيفات، بل يصحح الأخطاء التاريخية والجغرافية.  ويكتب بأسلوبٍ مسجوعٍ جزيل، تذكّرنا عباراته برحلات الإدريسي والمقدسي، لكنّها تمتاز بنَفَسٍ صوفيّ يهب الجمادات روحًا، فيقول مثلاً: "صافحنا كفوف القفار بأقدام الخيل المعقود في نواصيها الخير."

تتجلّى في الرحلة براعة النابلسي في تطويع اللغة لتكون أداة كشفٍ وتأملٍ معاً في حديثه عن الطريق إلى القدس مثلاً، يصف الجبال والسهول والأودية وكأنها مقامات للسالك في طريق المعرفة؛ فكل مرحلة جغرافية عنده هي منزلة روحية تقرّبه من "القدس الأكبر"، أي من صفاء القلب. وتقوم لغته على الازدواج بين الحسّ والمعنى: الحسّ في تصوير المعالم والأماكن، والمعنى في تأويلها الصوفي. فإذا وصف سور القدس، جعله رمزاً لحماية السرّ الإلهي من تسلل الغفلة، وإذا تحدّث عن أبواب المدينة، جعلها أبواباً للروح تنفتح بالذكر واليقين.
ويلاحظ أن النابلسي يستعمل الإيقاع النثري الشعري، فيمزج الجمل المرسلة بالتوازن الصوتي والاقتباس القرآني، فيتحول السرد إلى تسبيح لغوي، والرحلة إلى صلاة مكتوبة.

وفي رحلته إشارات دقيقة إلى تفاصيل الزمان والمكان: يذكر الأسواق، والمساجد، والمقامات، والمنازل، لكنه لا يكتفي بالوصف التاريخي، وإنّما يتجاوزه إلى رؤية المظاهر في ضوء الباطن، فيرى في كل حجَرٍ سرّاً من أسرار التوحيد، وفي كل مشهد تجلياً لجمال الخالق.

القدس: بهاء المكان ودهشة الزائر

حين بلغ النابلسي بيت المقدس، أفرغ قلبه في قلمه، فكتب أبهى صفحات الرحلة. وصف المسجد الأقصى وصفًا دقيقًا: مقاييس الصخرة، الأعمدة الرخامية، القناديل المذهبة، المدارس المحيطة به، واستنطق التاريخ مستعينًا بذاكرته الموسوعية، فذكر ما قيل عن بناء قبة الصخرة، وما اعتراها من تحوّلات عبر العصور، حتى غدت صفحاته مصدرًا معتمدًا للمعماريين والمؤرخين على السواء.

وقد نظم في المسجد الأقصى شعرًا على البحر الكامل يقول فيه:

  لله بالبيت المقدّس جامعٌ                 بهرَ النواظرَ نورُه وبهاؤه

منهُ الجوانبُ واسعاتٌ تنجلي                وزهتْ بطلعةِ قبتهِ سماؤه

قصيدة تحيل الوصف إلى صلاة، وتحوّل الرؤية إلى ذكر. فالقدس في رحلة النابلسي مرآة للسماء في الأرض، وموطن تجلّي العروج الإنساني إلى الحقّ..
وحين يصف المسجد الأقصى وقبة الصخرة، تتبدّى اللغة عنده كأنها تهتزّ بالخشوع، فيقول في وصف دخوله المسجد:

"دخلنا إلى المسجد الأقصى المبارك، فأنارت جوانحه أنوارُ الإسراء، وسرى في القلب من بهائه ما لا يُوصف بالعبارة"

في هذا النصّ تظهر القدس ككائنٍ نوراني،  يُدرك بالبصيرة. وهي عنده نقطة التقاء السماء بالأرض، والزمان بالأبد، إذ يرى في الإسراء والمعراج صورةً للإنسان الكامل الذي يرتقي من عالم التراب إلى عالم الصفاء.

ومن اللافت أن النابلسي قدّم صورةً اجتماعية واقعية للقدس في القرن الحادي عشر الهجري، فذكر سكانها وأسواقها، ووصف تديّن أهلها ومجالس علمهم، ما جعل الرحلة مصدراً تاريخياً عن الحياة الفكرية والروحية في المدينة، لكنّه في الوقت ذاته حمّل هذه المشاهد بعداً صوفياً شاملاً، يرى في الإنسان والمدينة كيانين متوازيين في السعي نحو النور

تعدد الرؤى وتوثيق الاختلاف

كان النابلسي قارئًا ناقدًا لما يرويه. فهو يشكّك أحيانًا في مواقع القبور أو الروايات الشعبية، ويستند إلى مصادر معاصريه كالشيخ محمد بن طولون الصالحي في تحفة الحبيب فيما ورد في الكثيب، أو إلى أقوال الهروي والدميري وغيرهما.

وبذلك يتجاوز منهج النقل إلى منهج التحقيق، فيجمع بين روح المتصوف وقلم الموثّق.

القيم الاجتماعية والإنسانية في الرحلة

     تُظهر الرحلة ملامح من حياة الناس في القرن الحادي عشر الهجري: التكايا التي كانت مأوى المسافرين، عادة دقّ الطبول لتوزيع الطعام، وصناعة المسابح في بيت لحم، وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية.

كلها إشارات تجعل من الرحلة مرآةً اجتماعية لزمانها، تفيض بالإنسانية والصفاء.

خاتمة الرحلة: الشعر تأريخ الروح

 ختم النابلسي رحلته بقصيدة ميمية من (125) بيتًا على مجزوء الوافر، جمع فيها خلاصة الرحلة في نظمٍ يسيل عذوبة، فجعل الشعر خاتمة الرحلة كما كانت الرحلة مفتتحًا للشعر.

كتب النابلسي رحلته المقدّسة، فكانت أوراقه بمثابة خريطة روحية لبلاد الشام، تقرأها القلوب قبل العيون.

 رحلةُ عبد الغني النابلسي إلى بيت المقدس نصٌّ حيٌّ ينبض بالروح، يكتب فيه المتصوف وجودَه في لغةٍ تتجاوز الحروف إلى إشعاع المعنى، فتتبدّى المدينة في كل سطرٍ كلوحةٍ من نورٍ وموسيقى صامتة، ويصبح المكان نصًّا يقرأه القلب قبل العين، ويستشعره الوعي قبل الإدراك.

ارتقت الرحلة إلى مقام الكشف المطلق، ففاض الزمن فيها من حدوده إلى رحابة السرّ، وتجلّت القدس في النصّ نقطةَ التقاءٍ بين الأرض والسماء، بين الإنسان والمطلق، بين الشعر واليقين. في حضرة القدس، تنصهر الكلمات في جسور الروح، ويصير السكون لغةً، والصمت حضورًا، وكل خطوةٍ رحبة تتفتح فيها أبواب الإدراك، فتتحقق الإشراقات في كل زاوية، ويصبح الوجود كلّه شهادةً على قداسة المكان وعظمة اللقاء بين النفس والكون.

المراجع

باشا، عمر موسى: تاريخ الأدب العربي العصر العثماني.ط1، دار الفكر، دمشق-سورية، 1989.

الحبّازي، مشهور: الحياة الفكرية في بيت المقدس من خلال رحلة " الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية". المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد 114/29، 2011.

الزركلي، خير الدين: الأعلام. بيروت، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، ط7، 1986.

فروخ، عمر: تاريخ الأدب العربي. دار الملايين، بيروت، ط4، 1981.

المرادي، أبو الفضل محمد خليل: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. دار ابن حزم، بيروت-لبنان، ط3، 1988.

النابلسي، عبد الغني: الحضرة الأُنسيّة في الرحلة القدسية. تحقيق: أكرم حسن العُلبي. المصادر، لبنان- بيروت، ط1، 1990.