في عالم يركض فيه الجميع خلف الخبر، وتتنافس فيه القنوات والمنصات على من يصيغ العنوان الأكثر إثارة، يبدو الشعر كأنه يسير عكس التيار.

الشاعر لا يستعجل الحدث، لا يهتم بمن سبقه إليه، ولا يلهث خلفه. هو ببساطة ينتظر، يتأمل، ثم يكتب.

لكن مفارقة أن ما يكتبه الشاعر في سكون، قد يبقى في الذاكرة أقوى وأعمق من كل الأخبار العاجلة.

الشعر ليس وسيلة لنقل "ما حدث"، بل هو فن لقول "كيف حدث"، و"لماذا حدث"، و"كيف شعر الناس وهم يمرون به".

إنه يعيد للحدث إنسانيته، ويمنحه بعداً عاطفياً وروحياً لا يمكن أن تنقله الكاميرا أو التقرير.

حيث نقرأ قصيدة لمحمود درويش، أو نزار قباني، لا نعرف فقط ماذا حدث في وطن، أو في قلب، أو في زمن... بل نعرف كيف تألم الشاعر، وكيف جعل من ألمه لغة قادرة على أن تؤلمنا نحن أيضاً.

الإعلام الحديث - رغم قوته - يواجه مشكلة التكرار والسطحية، وفقدان العمق. الخبر يُستهلك بسرعة، ويُنسى بسرعة. الصور تُمرر بسرعة، والناس تُغرق في طوفان الأحداث. 

لكن الشعر، لأنه لا يصف الحدث بل يتفاعل معه، يعيش طويلًا في الذاكرة. ربما لأن الشعر لا يقول الحقيقة كبيان صحفي، بل يهمس بها كاعتراف داخلي. وما يُهمس به، يبقى أصدق أحيانًا مما يُصرّح به.

نحن نعيش اليوم في عصر يسمى “عصر ما بعد الحقيقة”، حيث لا يكفي أن يكون الشيء حقيقيًا ليُصدّق، بل يجب أن يكون مقنعًا، مؤثرًا، وقريبًا من وجدان الناس. وهنا تمامًا، يبرز الشعر كأداة إعلامية بديلة، ليس لأنها تحل محل الصحافة، بل لأنها تُكمل ما تعجز عنه.

الشاعر لا يقيّد نفسه بالحقيقة الظاهرة فقط، بل يبحث عن الحقيقة الأعمق.

لا يقول إن هناك حربًا، بل يصف كيف تغيّر وجه المدينة تحت الغبار، وكيف اهتز قلب أمّ حين عاد ابنها بلا صوت. لا يقول إن هناك فقرًا، بل يكتب عن الجوع كظلّ يسكن العيون ويُثقل الروح.

بكلمات قليلة، قد يصف الشعر شيئًا يحتاج الصحفي إلى ألف كلمة لشرحه. والمفارقة أن المتلقي، في كثير من الأحيان، يتذكر بيت شعر واحد، أكثر مما يتذكر مقالًا إخباريًا كاملًا.

في عصر السوشال ميديا، ومع تراجع الاهتمام بالنصوص الطويلة، عاد الشعر بطريقة أخرى.

ليس في الكتب، بل في المقاطع القصيرة، والفيديوهات، والريلز... كأن الناس – رغم تسارعهم – ما زالوا يبحثون عن شيء بطيء، عميق، يشبههم من الداخل.

وما الشعر إلا ذلك النبض البطيء في قلب عالم سريع.

المتنبي: الشاعر الذي قتله شعره

كطالب إعلام، ربما تسأل نفسك: ما علاقة هذا بما أدرسه؟ والجواب بسيط:

في عصر فقد فيه الإعلام كثيرًا من مصداقيته ومهنيته، يحتاج الإعلامي الحقيقي إلى أن يتعلّم من الشعر الصدق، والعمق، والتأمل.

الإعلامي الذي يكتب كأنّه شاعر، ويشعر كأنّه إنسان أولًا، يكون أقرب إلى الناس، وأقدر على التأثير فيهم.

الشعر لا يُنافس الإعلام، لكنه يُنقّيه من جفافه، ويمنحه روحه.

فلا تخجل من أن تكون إعلاميًا يحب الشعر.

بل اجعل الشعر أداة من أدواتك…

لأن الكلمة، حين تُقال من القلب، تصل أسرع من أي بث مباشر.

ختاماً...

لو أردنا تلخيص الفكرة بكلمة واحدة فهي:

الشعر لا يخبرنا بما نعرفه، بل يوقظ ما كنّا نخشاه أن نعرفه.

ولهذا سيبقى الشعر – رغم كل تطور تكنولوجي – ضرورة إنسانية، وإعلامًا من نوع مختلف.

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعي

اشترك في نشرة اخبارنا