تحديثات الأخبار

(خرائط الألم فوق جدار الشفاء)

     لم يكن الجدار يعي دوره إلا من خلال الثقل الذي يحمله، ولم يكن يدرك حينها أن كينونته الإسمنتية ستتحول ذات يوم من فاصل بين ممر وغرفة، إلى شاهد بين حياة وفناء، كان يظن نفسه مجرد جدار صامت وطلاء أخضر، رُسِم عليه ذات غفلة من الزمن سهم يشير إلى اليمين (مستشفى الشفاء)، لكن القذيفة التي اخترقت خاصرته، لم تكن مجرد كتلة معدنية، كانت إزميلاً غاشماً أعاد نحت ذاكرة الزمن في مسامه، أيقظت فيه ذاكرة الحجر الأولى، تلك التي كانت جبلاً قبل أن تمسخها الصناعة إلى قوالب جامدة، رسمت عليه خطوطاً لم تُمحَ. تشبه الشرايين في صور الأشعة السينية متعرجة دامية، ومنتهية عند حواف العدم.

أنا الجدار أو الحائط.. هكذا يطلق علي

ولكني الروح التي لم تجد جسداً يسكنها، فاستوطنت الشقوق في الليل، حين تخفت قهقهات الطائرات المعدنية وتستعيد السماء أنفاسها المتقطعة خلف سحب الفسفور، تبدأ الخرائط فوق جسدي بالنمو، كل شق هو طريق لم يكتمل بعد، وكل فجوة هي اسم سقط من سجلات النفوس، وكل بقعة سوداء هي زمن تجمد في لحظة الانفجار، أنا الوحيد الذي لم يُدفن بعد، لأنني أحمل عبء الواقفين.

ليلى.. تلك الممرضة التي كانت تستند علي كل صباح، كنت سندها عند عبء التعب وثقل الحياة ومرارتها، كنت الزمن بالنسبة لها، لأن الوقت هنا لا يُقاس بالثواني، بل بعدد المرات التي يرتجف فيها جفن العين، كانت تضع يدها فوق نتوءاتي وهي تعبر الممر المظلم، تتحسس نبضي الإسمنتي كما لو كانت تبحث عن بقايا حياة في قلب الحجر، لم تكن تدري أنني أحفظ بصمتها أكثر مما تحفظ هي ملامح وجهها المتعب في المرآة المحطمة.

لا تتركيني وحيداً.. همست لها ذات ليلة حين اشتد النزيف في الطوابق العليا فلم تسمعني، أو لعلها سمعت واختارت أن تصمت؛ فالبشر حين يقتربون من نقطة الانكسار، يتخلون عن لغاتهم ويعودون إلى الصمت كصلاة أخيرة.. كان المكان هنا يشبه الجنة، فالأرض تلمع كمرآة تعكس الوجوه المطمئنة روح سعادة تسير في فضاء المكان، والروائح لم تكن باروداً، بل مزيجاً من المطهر القوي، والقهوة المغلية على عجل، ورائحة الأمل التي تشبه رائحة الورق الجديد.

أتذكر الأطفال بقمصانهم الملونة، كانوا يرسمون في ردهة الانتظار قلوباً حمراء ممتلئة، لا خرائط مقطعة الأوصال، كان الأطباء يتجادلون بشغف حول جرعات الشفاء، ولم يكونوا يعرفون أنهم سيتجادلون يوماً حول أولوية من يموت، أحدهم - غاب اسمه في غبار القصف - كتب ذات يوم بقلم أزرق نحيف على زاويتي اليمنى: "هنا نتعلم كيف ننقذ الحياة"، ضحك رفاقه يومها، ومسحوا العبارة حفاظاً على النظام، لم يدركوا أن الجدران لا تنسى ما يكتب عليها بالحب، كما لا تنسى ما يحفر فيها بالرصاص.

الآن، لا أحد يكتب باللون الأزرق، الطائرات في الأعلى هي التي تكتب.. تكتب بلغة الباردة العمياء، لغة لا تعرف الأبجدية بل تبحث عن زوايا السقوط، هي لا ترى الدم الذي يلطخ قميص يوسف، بل ترى نقطة حمراء على شاشة عالية الدقة، حين تنفجر النقطة، تتحول إلى خضراء، وهنا تم تحديد الهدف.

في عرف الخرائط الرقمية، مستشفى الشفاء هو إحداثية، ولكنه أخلاق تنزف، كنت أسمع الأجهزة قبل أن تُحطم، جهاز التنفس الاصطناعي كان يتنهد بعمق كعجوز يودع أحفاده، والمولد الكهربائي كان يئن كحصان طروادة خذلته قواه في منتصف المعركة، حتى الكراسي المتحركة، حين كانت تتدحرج فوق الحطام، كانت تصدر صريراً جنائزياً يشبه بكاء النسوة في المآتم البعيدة.

الأشياء يا سادة، تعرف أكثر مما تعتقدون، الجمادات لا تموت فور وقوع الانفجار، بل تدخل في حداد جيولوجي طويل، تنكمش على نفسها، وتخبئ أسرار الذين لمسوا أسطحها قبل الرحيل.

لماذا الشفاء؟

لماذا يُقصف المستشفى؟ السؤال يدور في رأسي الإسمنتي كإعصار محبوس.

هل لأن الشفاء في زمن الإبادة هو فعل تمرد؟

هل لأن الطبيب الذي يحيي جسداً، يفسد على الخريطة الرقمية كمالها؟

أم لأن الهدف في العقيدة الحديثة ليس الجسد، بل فكرة النجاة؟

الهدف.. كلمة صغيرة، لكنها ثقيلة بما يكفي لتسقط الأخلاق من أعلى السموات. حين يسقط الجدار المقابل لي، أشعر بانهيار العالم، سمعت صوت ارتطامه بالأرض، لم يبقَ منه إلا ظل باهت على البلاط، يشبه شاهد قبر بلا اسم. في تلك اللحظة، أدركت فلسفة وجودي: نحن الجدران نموت واقفين، لكي نظل خرائط تدل التائهين على أماكن الوجع.

في الأسبوع الأول جاء صحفي أجنبي، كان يحمل كاميرا بعدسة تزن أكثر من جسد يوسف الصغير، التقط صورة لشقوقي العميقة، وللدم الذي جفّ في مسامي، في اليوم التالي قرأت بالخبر المنشور تحت صورتي:  أضرار جانبية.

ضحكتُ ضحكة صامتة لو سُمِعت لاهتزت لها أساسات المدينة.. أي ضرر جانبي هذا الذي يحفظ أسماء القتلى في تجاعيده؟ أي هامش هذا الذي صار هو المتن الوحيد للحقيقة؟ إنهم يحاولون تحويل المأساة إلى إحصاء، وتحويل الخريطة إلى مجرد رسم بياني.

يوسف، ذلك الطفل الذي صار بلا ساق، كان يجلس مستنداً إلي، قال بصوت هش كحفيف الورق: الحائط بارد، واتخذ كرسياً سنداً له. صرخت فيه: وأنا متعب يا يوسف، متعب من حمل ذكرياتكم التي لا تزن شيئاً، وتزن جبالاً في ميزان الألم.

   عادت ليلى في الليلة الأخيرة، كانت مغطاة بدم جسد صريع حاولت إنعاشه، وضعت رأسها المتعب على صدري الإسمنتي وبكت، في تلك اللحظة، ولأول مرة منذ بنائي، تمنيت لو أستطيع الانهيار، ليس خوفاً من القذائف، بل رغبة في أن أكون كتفاً لا حجراً، أن أسقط تحتها لأرفعها قليلاً عن هذا الواقع الصلب.

قالت: سامحونا.. لم نعد نستطيع..، نحن الجدران نغفر دائماً، لأننا ندرك أن الذنب يكمن في الأيدي التي تضغط على الأزرار بعيداً خلف الشاشات، وليس في الأيدي التي تحاول رتق الجراح بالإبر الصدئة.

مع بزوغ فجر شاحب، سكن العواء المعدني.. السماء بدت كمن ندم على صمته الطويل، لكن الخرائط فوقي لم تختفِ.. الألم حين يُرسم بالدم والبارود، يتسرب إلى المناخ النفسي للمكان.

أنا جدار مستشفى الشفاء، أو ما تبقى من فكرة الشفاء، أحمل فوقي خرائط لا تُدرس في الجامعات، وأخلاقاً لم تجد طريقها إلى خوارزميات الحروب الذكية، وحين يأتي يوم يرممونني فيه، ويطلونني بطلاء جديد، سيظن العابرون أنني عدت جداراً عادياً، لكنني سأعرف.. وسيعرف يوسف، وستعرف روح ليلى، أن تحت الطلاء، وتحت اللون، وتحت الاسم المكتوب بالأزرق، ما زال الألم يعرف طريقه، وما زالت الخرائط تنبض تحت الجلد الإسمنتي، شاهدة على زمن سقطت فيه الإنسانية ونجا فيه الحجر.

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعي

اشترك في نشرة اخبارنا

إعلان