بين العزلة الرقمية ونافذة الحقيقة بتنا نراقب الحياة من خلف زجاج أزرق براق، نبتسم لرموز وسيمة، ونحزن لأخرى كئيبة، نحب عبر أيقونات، وتنمو فينا عزلة صامتة مع كل إشعار جديد، لا يراها أحد، لكنها تلتهمنا ببطء.
فالأداة التي من المفترض أن تكون نافذة الإنسان إلى العلوم الكونية، تحوّلت إلى مرآة نرجسية تعكس أزمات آنية ومستقبلية متفاقمة، لتغدو أداة خفية تعيد صياغة وعي وسلوك أجيالنا الناشئة وتفكك نسيج مجتمعاتنا.
جيل مقيد في سراديب التواصل الافتراضي... منفيّ في ظلمات العزلة الواقعية.
تغيّر مفهوم الصداقة والعلاقات الاجتماعية جذريا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، واستبدلت اللقاءات الحقيقية بـ "مكالمات فيديو" والحوارات بـ "تعليقات نصية ورموز"، وحلت مجموعات الواتساب العائلية مكان الزيارات الأسرية.
حتى الروابط العاطفية لم تسلم من هذا الجفاف الرقمي، فقد تبخّرت حرارة الحوار وصدق التقاء العيون والتعبير عن المشاعر، وحلّت مكانها أيقونات مبتسمة وأخرى حزينة أو ساخرة، أو مجرّد "إعجاب" أو "تعليق" مقتضب.
إنها مفارقة العصر، حين يكون الإنسان محاطا بآلاف الأصدقاء الافتراضيين، لكنه يعاني العزلة وجفاف المشاعر الحقيقية.
أظهر مسح أجرته مؤسسة "حملة"، أن 68% من الشباب الفلسطينيين يعانون البرود في علاقاتهم الأسرية والاجتماعية، فطاولات العشاء وزوايا المنازل ومقاعد المقاهي تحولت إلى مساحات صمت بارد، يتفاعل فيها الأفراد مع شاشاتهم الذكية، لا مع الأرواح المجاورة لهم.
كما نوّهت تقارير منظمة الصحة العالمية إلى ارتفاع معدلات التوتر والاكتئاب بين مستخدمي الإنترنت في الفئة العمرية 16-25 عاما بنسبة تتجاوز 30%، مشيرة إلى الضغوط النفسية الناجمة عن المقارنات الاجتماعية المتمثّلة في مشاهدة حيوات مثالية مصطنعة على الشاشات وما ينجم عنها من إحساس طاغٍ بالنقص، ما يلقي بظلاله الثقيلة على صحتهم الجسدية والذهنية والنفسية، بالإضافة إلى التوتر والقل الناجم عما أطلق عليه علماء النفس "الاتصال القهري"، الناجم عن كل اتصال أو إشعار جديد.
بين طوفان المعلومات وضياع البوصلة
صحيح أن التكنولوجيا منحت الأجيال الصاعدة فيضانا معلوماتيا غير مسبوق، إلا أنها في الوقت ذاته أخفقت في تزويدهم بمِعايير التمييز بين الحقيقة والتضليل.
في فلسطين والمحيط العربي، أسفرت هذه الفوضى المعرفية عن تشويش قيمي حاد، حيث تتداخل أنماط الحياة الغربية مع الموروث الثقافي المحلي دون غربلة أو فرز واعٍ، ليجد المراهق نفسه تائها بين نماذج سلوكية متضاربة.
هذه الفجوة القيمية أنتجت ظواهر اجتماعية مستحدثة، تمثلت بالتمرّد الناعم على التقاليد الموروثة، والانجذاب الأعمى نحو ثقافة الفردية والحرية الشخصية والشهرة التي باتت تعرف "الترند"، والبحث عن الهوية في عالم رقمي بلا قيود ولا حدود.
وفي دراسة حديثة أنجزتها منصة arXiv عام 2025، حلّل الباحثون محادثات 1318مراهقا من الفئة العمرية بين (13-21 سنة)، ليتبين أن غالبية الشباب مستعدون للتضحية بأمنهم الرقمي مقابل الحفاظ على علاقاتهم الافتراضية، ما يكشف نمطا جديدا من "المجازفة الواعية"، التي تتمثّل في النزعة الفطرية نحو التواصل، حتى في بيئة محفوفة بالمخاطر.
جيل التيك توك... وصناعة الوعي الزائف
جيل جديد نشأ في زمن الشاشة، يفتح عينيه على المقاطع السريعة قبل أن يغسل وجهه، ويقيس الحقائق بعدد المتابعين والإعجابات لا بالمنطق أو التجربة، في فضاء تحولت فيه المعرفة إلى مشهد، والفكر إلى "ترند"، والهوية إلى فلتر.
لم يعد الطفل أو الشاب يتلقّى المعرفة من المدرسة أو الكتاب، بل من صانع محتوى لا يعرفه، لكنه يثق به لأنه يشبهه"، سطحية بلمسة جذابة، ومعلومات دون تحقّق، وقناعات دون تفكير نقدي.
التثبيط الرقمي: حين يصادر الصوت في عصر الحرية المزعومة
في مفارقة مذهلة، كشفت دراسة أجرتها مؤسسة "حملة" عن حقيقة تناقض جوهر الإنترنت كمنصة للتعبير عن الرأي، إذ تبين أن أكثر من ثلثي الشباب الفلسطيني يحجمون عن التعبير عن قناعاتهم السياسية وحتى الفكرية والاجتماعية في الفضاء الإلكتروني، خشية الملاحقات الأمنية أو الانتقام الاجتماعي، بل إن ثلث المشاركين أقرّوا بتعرّضهم لعقوبات أسرية نتيجة آراء سياسية واجتماعية نشروها عبر الشبكة، في ظاهرة أطلق عليها الباحثون مصطلح "التثبيط الرقمي".
هذا التناقض الحاد يجسّد الانفصام الذي يعيشه الجيل الفلسطيني الراهن بين الاستغراق التام في العوالم الافتراضية من ناحية، والصمت القسري الذي يخيّم على حرية التعبير من ناحية أخرى.
الوجه الآخر للإنترنت والتكنولوجيا الرقمية
لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا الرقمية فتحت المجال لإبداع الشباب في مجالات المعرفة والثقافة والفنون والتعبير والوعي المجتمعي، إلا أنها في ذات الوقت تستغل من قبل قوى معادية لبثّ رسائل موجّهة أو تسطيح القضايا المصيرية، ومآرب أخرى.
التكنولوجيا الرقمية والرواية الفلسطينية
رغم الانعكاسات السلبية للإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، قدّمت التجربة الفلسطينية وجهًا مُشرقًا واستثنائيًا في استخدامها. تمكّن الشباب الفلسطيني المُحاصَر والمُقيّد ومكمّم الأفواه من اختراق الجدران الإسمنتية وتحويل التكنولوجيا الرقمية إلى "نافذة الرواية الفلسطينية" إلى الرأي العام العالمي، فقلبت المفاهيم والمعايير الدولية المزدوجة رأسًا على عقب، ما أضاف إلى علم السياسة مصطلحًا جديدًا، أطلق عليه الباحثون "المقاومة الرقمية".
شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الحروب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة، والضفة الغربية الأداة الأشد فاعلية لنقل مأساة الفلسطينيين ومعاناتهم، والظلم الذي يتعرضون له، إلى الرأي العام العالمي لحظة بلحظة، في وقت غابت فيه عدسات الإعلام الدولي، أو تم تغييبها قسرا.
التعليم الرقمي وسيلة فعّالة في ظل الحصار لكنها مشوبة بالنقص
وجدت المؤسسات التعليمية الفلسطينية في التعليم الإلكتروني حلا مثاليا في ظل الاحتلال والحصار الخانق المفروض على المدن والقرى، لكنه في الوقت ذاته أضعف مهارات التفاعل الجماعي.
أطلقت مجموعة من الأكاديميين الفلسطينيين تحذيرات من "تلاشي الروح الجماعية" لدى الطلبة بعد سنوات من التعليم عن بعد، إذ تتدفّق المعرفة عبر الشاشات الباردة دون حرارة النقاش الحيّ وشرارة التفاعل الفكري المباشر.
تحديد المسافة بين الإنسان والآلة الرقمية
يجمع خبراء علم الاجتماع على أن التكنولوجيا ليست شرّا مطلقا بقدر كونها أداة محايدة.، فالتكنولوجيا الرقمية التي مزّقت الروابط الأسرية والاجتماعية وساهمت في هدم الكثير من القيم، هي ذاتها الأداة التي شكّلت نافذة الرواية الفلسطينية إلى العالم، وأسهمت في تبادل ونشر البحوث العلمية حول العالم.
الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الثقافة الرقمية والتربية التكنولوجية الواعية التي تُحقّق التوازن بين العالم الملموس والفضاء الافتراضي، وتُحدّد المسافة السليمة بين الإنسان والآلة.
ويبقى التحدي الأكبر أمامنا: كيف نحافظ على اتصالنا بإنسانيتنا وقيمنا وهويتنا وسط هذا الطوفان الرقمي الهائل؟.